تلعب الدبلوماسية العمانية دورا ديناميكيا محوريا في بناء ودفع عملية السلام في اليمن، مستفيدة من ثلاثة معطيات رئيسية للقوة الناعمة، تتمثل في ارتفاع مستوى المصداقية، والقدرة على التواصل وبناء الجسور، والرؤية العملية الموضوعية البعيدة عن التحيز والمصالح الخاصة. وتمثل هذه المعطيات الثلاثة نتاجا تاريخيا للتجارب الدبلوماسية العمانية في بناء السلام في شمال المحيط الهندي والخليج، كما تمثل أيضا رصيدا للقوة الناعمة العمانية، يعزز دورها المستقبلي في المساعدة على تجاوز الصراعات الإقليمية وتقديم الحلول الناجحة لها، من خلال دبلوماسية عملية هادئة، بعيدا عن الضوضاء والمزايدات. وقد كان آخر نجاحات هذه الدبلوماسية قبل اتفاق الهدنة في اليمن المساعدة على إنهاء أزمة فرعية في العلاقات بين بريطانيا وإيران، وذلك بالتوسط في شروط الإفراج عن اثنين من المواطنين البريطانيين/الإيرانيين من سجون طهران وتأمين عودتهما إلى بريطانيا.
تأكيدا للنزعة العملية لدبلوماسية بناء السلام العمانية، واستجابة للاحتياجات العاجلة للشعب اليمني، تجنبت المفاوضات الإغراق في قضايا خلافية ذات طابع عقائدي مذهبي أو سياسي
ويمثل اتفاق الهدنة الأخير محطة مهمة في الحرب اليمنية، التي تحمل بصمات صراعات الحرب الباردة، من حيث تداخل أطراف إقليمية مع قوى محلية، ووجود محركات ذات طابع سياسي – عقائدي تغذي استمرار الحرب، التي بدأت قبل سبع سنوات. وقد لعبت الدبلوماسية العمانية دورا محوريا في إنضاج شروط الاتفاق والتمهيد له، والمشاركة في رعاية عملية المفاوضات بين الأطراف المختلفة التي تضم المبعوث الجديد للأمم المتحدة هانز غروندبيرغ، وممثلي جماعة أنصار الله الحاكمة في صنعاء، وحكومة الشرعية اليمنية المقيمة بين عدن والرياض، والأطراف اليمنية السياسية الأخرى في الجنوب مثل، المجلس السياسي الانتقالي بقيادة عيدروس الزبيدي، وقوات العمالقة بقيادة طارق محمد صالح، والزعامات القبلية في شبوة وحضرموت والمهرة وغيرها، إلى جانب كل من الرياض وأبوظبي وطهران. وعلى الرغم من أن اتفاق الهدنة الأخير لم يكن الأول في سلسلة محاولات تهدئة الصراع على اليمن، ولا الأول من حيث دور الدبلوماسية العمانية فيه، إلا أنه استفاد بلا شك من انتقال ملف اليمن سعوديا إلى الأمير خالد بن سلمان منذ تعيينه نائبا لوزير الدفاع قبل 3 سنوات، ومن المحاولات السابقة للتهدئة التي جرت في عمّان وبغداد والرياض واستوكهولم. وقد أقنعت الدبلوماسية العمانية كل الأطراف تقريبا بضرورة البدء من حيث انتهت المحاولات السابقة، ما أثمر اتفاقا يأمل الجميع أن يستمر لمصلحة السلام، ووضع نهاية لمعاناة الشعب اليمني. ويتفق المبعوث الأممي الجديد مع مسقط في أن نجاح وقف إطلاق النار يرتبط بالتقدم على المسار السياسي، وهو ما يتطابق مع رؤية مسقط في أن اتفاق الهدنة هو مجرد خطوة على الطريق، من الضروري الاستمرار في رعايته وتوسيعه.
زيارة المبعوث الأممي لصنعاء
كانت نظرة جماعة أنصار الله في صنعاء إلى دور المبعوث الخاص للأمم المتحدة مليئة بالشكوك وعدم الثقة، وطالما حملت تصريحات المسؤولين هناك اتهامات للدور الذي يقوم به. كانت هذه هي العقبة الأولى التي واجهت المبعوث الجديد، الذي يتمتع بخبرة طويلة في دبلوماسية تسوية النزاعات، وعلاقة طويلة بالملف اليمني والصراعات في الخليج. كما شارك في مفاوضات الأمم المتحدة التي أسفرت عن اتفاق استوكهولم عام 2018، وعمل منذ عام 2019 سفيرا للاتحاد الأوروبي في اليمن. وكانت مسقط محطة رئيسية من محطات نشاط غروندبيرغ منذ بدأ ممارسة مهمته الحالية. ولعبت الدبلوماسية العمانية دورا جوهريا لكي توفر له قناة اتصال آمنة وموثوقا فيها مع السلطات القائمة في صنعاء، ومساعدته في التواصل مع أطراف أخرى في اليمن ذات مصلحة في السلام، فهو لم يكن ليستطيع ممارسة دوره بكفاءة من دون ذلك. وبذلت مسقط مجهودا كبيرا لترتيب الزيارة الأولى التي قام بها غروندبيرغ إلى صنعاء يوم 11 من الشهر الحالي، التي استمرت ثلاثة أيام، وسط أجواء إيجابية، ونجحت في بناء الثقة التي كانت مفقودة من قبل بين الطرفين. وكان نجاح هذه الزيارة بمثابة صمام أمان لاتفاق الهدنة، وعتبة للصعود إلى درجة أعلى على سلم التهدئة وبناء الأمن والسلام في اليمن. وقد تم الاتفاق على أن يتولى مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة مسؤوليات تنسيق المساعدات الدولية، بالتعاون مع عدن وصنعاء، وفتح قنوات للحوار والتفاهم لتجنب سقوط الهدنة، وضمان تنفيذ الخطوات التي يتم الاتفاق عليها لتوسيع نطاق السلام وتثبيته.
أولوية تحسين ظروف المعيشة
تأكيدا للنزعة العملية لدبلوماسية بناء السلام العمانية، واستجابة للاحتياجات العاجلة للشعب اليمني، فقد تجنبت المفاوضات من أجل التوصل لاتفاق الهدنة الإغراق في قضايا خلافية ذات طابع عقائدي مذهبي أو سياسي، وركزت على رسم طريق عملي يوصل الأطراف جميعا إلى بناء حقائق جديدة على الأرض تقود إلى التهدئة، عبر إجراءات لبناء الثقة، بما يؤدي إلى تقليل مشاعر الشكوك المتبادلة، وتقريب المواقف إلى واقع جديد أقل عنفا، يميل أكثر إلى نهج التعاون بدلا من المواجهة، ويؤدي إلى ظروف معيشية أفضل، سواء على صعيد اليمن ككل، أو على صعيد العلاقات بين القوى المتقاتلة. وفي هذا السياق تم تحديد الأولويات، طبقا لاتفاق الهدنة المعلنة في 30 مارس الماضي، لتشمل وقف القتال في الداخل وعبر الحدود لمدة شهرين، والبدء في اتخاذ إجراءات لفتح المطارات والموانئ، وفتح وتأمين الطرق بين الشمال والجنوب، وتبادل قوائم للأسرى والجرحى والسجناء بغية الشروع في وضع خطة لتغيير أوضاعهم، والبدء في وضع برنامج لإعادة الحياة إلى المؤسسات الإدارية اليمنية لكي تمارس دورها بفاعلية على مستوى اليمن ككل. وتم الاتفاق على أن يكون العنوان الأول للمجهود المؤسسي وإعادة الاعتبار للإدارة الموحدة هو «إعادة توحيد البنك المركزي اليمني»، وتجاوز الانقسام القائم بين أجهزته في صنعاء التابعة لحكومة أنصار الله، وتلك الموجودة في عدن تحت ولاية «الشرعية»، وإحياء دوره الموحد على مستوى البلاد ككل، لما في ذلك من أهمية قصوى في تيسير حصول الموظفين على رواتبهم الشهرية بانتظام، وتحقيق استقرار العملة، وتنظيم عملية تمويل الواردات. وفي هذا السياق تم الاتفاق على تشكيل «المجلس الاقتصادي الأعلى» في اليمن من كفاءات مهنية، وإعادة تشكيل مجلس إدارة البنك المركزي نفسه، وتطبيق معايير موضوعية، تحت إشراف مكتب المبعوث الأممي، لضمان حيادية البنك وشفافية سياساته وإجراءاته وضمان الرقابة على عملياته، بما في ذلك إصدار العملة وإدارة الودائع. وعلى أساس هذا الاتفاق تعهدت السعودية والإمارات بتقديم مليار دولار كدعم اقتصادي للبنك المركزي اليمني، وأن تقدم السعودية مليار دولار أخرى لمشاريع التنمية ودعم الوقود، بالإضافة إلى 300 مليون دولار لخطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة. كما شملت أولويات اتفاق الهدنة البدء في إنهاء الحصار على مطار صنعاء والبدء في تسيير رحلات منتظمة منه وإليه بين اليمن والعالم الخارجي، والسماح بإدخال سفن القمح والوقود، إضافة الى سفن المساعدات عبر ميناء الحديدة، وتسهيل توزيع القمح والوقود والمساعدات الإنسانية في عموم اليمن، بالتنسيق بين مكتب مبعوث الأمم المتحدة وهيئة المكتب الرئاسي الجديد في عدن وحكومة أنصار الله في صنعاء، وبالتعاون مع السلطات المعنية في المملكة السعودية ودولة الإمارات.
مناخ سياسي جديد
شهد اليمن تغييرات درامية خلال الأسابيع الأخيرة، قلبت التوازنات السياسية التي ترافقت مع الحرب اليمنية في السنوات السبع الماضية، أهمها إزاحة الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي ونائبه علي محسن الأحمر، وتشكيل مجلس رئاسي في 7 إبريل الحالي، على أساس مجموعة من المعايير التي تضمن توازنا نسبيا في المصالح داخله بين الشمال والجنوب (4 أعضاء شماليين و4 جنوبيين) بقيادة رشاد العليمي وزير الداخلية الأسبق في حكومة المؤتمر الشعبي العام، الذي يحظى بخبرة كبيرة واحترام واسع لدى معظم القوى السياسية والقبلية. هذا المجلس يمثل الآن القيادة الجديدة لـ»الشرعية»، ويبدأ العمل انطلاقا من برنامج يتبنى أولويات جديدة، أهمها البحث عن الأمن والسلام، والمحافظة على وقف إطلاق النار، وتحسين سبل الحياة للشعب اليمني شمالا وجنوبا، والحوار مع الجماعة الحاكمة في صنعاء من أجل التوصل إلى تسوية سياسية لإحلال السلام بواسطة اليمنيين أنفسهم، وتقليل تأثير النفوذ الأجنبي إلى أدنى حد ممكن. ويعد تشكيل المجلس الرئاسي وازاحة كل من هادي والأحمر تغييرا لقواعد اللعبة داخل معسكر «الشرعية»، كما يعد تعيين طارق صالح نائبا لرئيس المجلس بداية لإضعاف شوكة حزب الإصلاح والقوى المستفيدة من استمرار الحرب، ويفتح صفحة جديدة في الصراع الراهن، يمكن إذا أُحسِن استثمارُها، أن تصبح بداية لعملية سياسية جديدة تفتح الآفاق لتسوية تساعد على تخفيض التوتر في العلاقات الخليجية- الإيرانية، وتنهي الحرب التي جعلت اليمن حاليا موطنا لأسوأ أزمة إنسانية في العالم.
*نقلا عن القدس العربي