كعادة اليمنيين يكرمون شهداءهم وأمواتهم بعد أن يغادروا هذه الحياة، ويقصرون بحقهم أحياءً ولا يمسكون ألسنتهم عنهم، ولا يعرفون قيمتهم إلا بعد الرحيل.
يصدق في هذه الحال عليهم قول الشاعر أبي الفراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
اللواء الشهيد جواس يمثله هذا البيت من الشعر حق التمثيل لينطبق عليه كما انطبق على من قبله كالشهيد حميد القشيبي اللذين خذلا أحياءً ليفتقدهما الوطن أمواتاً، وغيرهم من القادة الأعلام الذين قضوا نحبهم منافحين عن بلادهم بشرف وبطولة وجبين ناصع.
مر الشهيد جواس بظروف قاسية، كما قال معايشوه، ومع أن حياته ظلت على الدوام في خطر كونه مطلوباً للمليشيا الحوثية الإرهابية، كغيره من الأبطال، إلا أنه كان الأشد طلباً لهم كون شرف قتل المتمرد حسين الحوثي ينسب إليه في الحرب الأولى لصعدة عام 2004.
في ظل هذه الظروف، ومع أنه يتبوأ منصباً عسكرياً كقائد لمحور العند، إلا أنه لم يكن معه وسيلة مواصلات كطقم عسكري كما هو حال بقية القيادات، أو مخصص لحمايته الشخصية، ليضطر أن يأخذ معه بعض أقاربه مرافقين له يعملون كحراس شخصيين، مع أن الحماية في مثل هذه الظروف تتطلب أشخاصاً مهنيين ويتمتعون بثقة مطلقة، وهو ما يفتقده الكثير من القادة اليوم، لذلك يلجأون إلى أقاربهم، فيدفع أقاربهم الثمن معهم.
وأنا أراجع سيرته الذاتية يكتب الكثير أنه من المسرحين العسكريين الجنوبيين بعد حرب صيف 1994، وإن كانت هذه لها مصداقية بعض الشيء إلا أنها ليست كذلك حتى النهاية.
بحكم خبرتي السابقة ومعيشتي في الجيش لبضع سنوات، صحيح أن كثيراً من الضباط سرحوا بعد تلك الحرب ولكن ليس إلى مالا نهاية، فكثير منهم عمل الفريق علي محسن على إعادتهم للسلك العسكري في المنطقة الشمالية الغربية، وتم تعيين بعضهم قادة لكثير من ألويتها، ومنهم الشهيد اللواء ثابت مثنى جواس.
ففي عام 1998 انتقلت كثير من الألوية المرابطة في بعض المحافظات الجنوبية إلى صعدة، وهناك تم تأسيس الكثير من المعسكرات والألوية، وعين قائد المنطقة الشمالية الغربية يومها اللواء علي محسن عين العميد ثابت جواس قائداً للواء 15 مشاة التابع للمنطقة.
كان البطل جواس من اعمدة الفرقة الاولى مدرع الذين يثق بهم اللواء علي محسن ويعتمد عليهم كل الاعتماد ومن المقربين له، فعينه للوهلة الأولى بعد استقدامه من الجنوب ركن استطلاع الفرقة الاولي مدرع والمنطقة الشمالية الغربية، ثم قائداً للواءً 15 في المنطقة العسكرية الشمالية الغربية.
كان اللواء علي محسن يتفرس في العميد جواس المهنية العسكرية والانضباط وديناميكيته الحركية في العمل العسكري فقربه إليه وكان من أهم أعمدة الجيش هناك الذين يعتمد عليهم ويثق بهم في مواجهة الفتنة الحوثية عند نشأتها وظهورها في التمرد المسلح عام 2004.
وعندما اندلعت حرب صعدة خاض جواس المعركة بكل تفاصيلها، وأظهر قدرة فائقة في المهنية والأداء، ووصل بجنوده إلى مغارة زعيم التمرد حسين الحوثي التي يتحصن بها والقضاء عليه هناك، أو هكذا كانت الرواية المتداولة حتى اليوم.
لم يكن هذا الحديث ضرباً من التخرص والخيال، فقد أظهرت تسجيلات مرئية وثائقية العميد جواس إلى جوار قائد المنطقة اللواء الركن علي محسن صالح وهو يتفقده بين القادة والمقاتلين الميدانيين إلى جوار الشهيدين حميد القشيبي وعبدالرب الشدادي، وهذا الأخير كان يومها لا يزال ضابطاً صغيراً لما يسطع نجمه بعد.
يصف الفريق علي محسن اللواء جواس بأنه من الأبطال المناضلين الوحدويين والذي كان نموذجاً في الشجاعة والانضباط والأخلاق، وهو من أبطال معركة مران وقائد معارك: محديدة الطلح، وغرابة الأبقور في صعدةً وكذلك معركة مسرخ آل الصيفي والعشة مطرة، والداير مران في الحروب السابقة.
كما قاد جواس معارك الشرفة مع اللواءً 310 بمعية البطل الشهيد حميد القشيبي وكذلك منطقة الحكمي مع اللواءً 310 أيضاً مع البطل حميد القشيبي وكذلك معارك الجني والجميمة، وغير ذلك من المعارك البطولية.
ظل اللواء جواس حارساً أميناً للجمهورية في محافظة صعدة عقب حروبها الست، متسنماً قيادة ومسؤولية اللواء 15 مشاة في المحافظة، وظل يَشغَلُه حتى عام 2011، وعند انطلاق ثورة الشباب في 11 فبراير 2011 ، أقيل العميد جواس فعاد إلى عدن بعد الانقلاب الحوثي على الدولة في 21 سبتمبر 2014، ليستعد لجولة أخرى من الصراع مع مليشيا الإرهاب والانقلاب الحوثية، مواصلاً نضاله ضدها مع بقية رفاقه المخلصين للدولة والثورة والجمهورية.
عقب الانقلاب الحوثي تم تعيين العميد الركن ثابت جواس قائداً للقوات الخاصة بعدن خلفاً للعميد عبدالحافظ السقاف الموالي للمليشيا الحوثية والذي سهل للحوثيين دخول مدينة عدن، وكان الأجدر بهذا المنصب لخبرته الطويلة لولا خذلان الحال والمآل، وعقبَ تحريرِ العاصمةِ المؤقتة عدن ومحافظةِ الضالع تم تعيينُ العميد جواس قائداً لمحور العند قائداً للواء 131 مشاة، وترقيته إلى رتبة لواء، وظل على رأس قيادةِ المحور حتى لحظة استشهادِه في العمليةِ الغادرة الجبانة.
تعرض اللواء ثابت جواس لإصابات طفيفة في هجوم الطيران الحوثي المسير على قاعدة العند الجوية في العاشر من يناير 2019 أثناء احتفال القوات هناك، وأودت العملية ببعض الضباط هناك.
لقد كان الشهيد - يرحمه الله – سجلاً مليئاً بالنضال، وناصعاً في الشرف والبطولة، لم يعرف عنه اختلاساً أو فساداً كما عرف عن غيره، إذ تحمل الأمانة والمسؤولية بحقها، ورحل شريفاً نظيفاً بسجل ناصع البياض قلما يكون في هذا العصر.