في أحدث عملية عسكرية هجومية في البحر الأحمر، استولت جماعة الحوثي المدعُومة من إيران في الثالث من يناير/ كانون الثاني الحالي على سفينة الشحن "روابي" التي تحمل علماً إماراتياً، لتدخل الحرب في اليمن مرحلة جديدة من التصعيد العسكري، إذ قد يمنح الغضب الدولي من تجاوز جماعة الحوثي كل الخطوط الحمراء، واستهداف التجارة العالمية، قائدة التحالف العربي في اليمن، السعودية، غطاءً دولياً جديداً لتصعيد عملياتها العسكرية في اليمن بذريعة حماية أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر، أحد أهم الطرق الرئيسية للتجارة العالمية، من تهديد الجماعة، ومن ثم تشديد الحصار البحري على الموانئ اليمنية، ما يعني مضاعفة معاناة اليمنيين في بلد يعيش المجاعة منذ ثماني سنوات، إضافة إلى مخاطر نقل الصراع بين الفرقاء الإقليميين وحلفائهم في اليمن إلى البحر، ومن ثم صعوبة تأمين الملاحة في ظل تصاعد وتيرة الحرب وتعدّد أطرافها وتنامي نفوذ الوكلاء المحليين في سياق حرب الوكالة.
ظلت المياه الإقليمية اليمنية، بما في ذلك الممرّات المائية، بعيدة إلى حد كبير عن دائرة الصراع الإقليمي والدولي في السنوات الأولى من الحرب، وذلك لأن طبيعة الصراع في اليمن كانت محلية أكثر من كونها إقليمية، إذ اقتصر التنسيق بين إيران ووكيلها جماعة الحوثي على الصعيد السياسي، ولم يتعدَّه إلى الجانب العسكري ومواءمة أجنداتهما الإقليمية، إلى جانب أن جماعة الحوثي لا تفضّل معارك البحر، لكونها لا تملك قوة عسكرية بحرية تمكّنها من مواجهة السعودية، إضافة إلى غلبة الطبيعة الجبلية المقاتلة للجماعة، التي تجعل من خوض معارك بحرية مكشوفة لا تصبّ في مصلحتها، ومن ثم قصرت نشاطها العسكري على تنفيذ هجماتٍ محدودة باستخدام ألغام بحرية استهدفت سفناً سعودية في البحر الأحمر، والاعتماد على صواريخها الباليستية التي دخلت في المعركة في مرحلة لاحقة، كاستهدافها السفينة الإماراتية "سويفت -1" في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016 قرب ميناء المخا على البحر الأحمر.
ومع محدودية هذه الهجمات، أدّى انتقال المعارك إلى بر الساحل الغربي اليمني، مع بدء معركة تحرير مدينة الحديدة ودخول قوات محلية مدعومة من السعودية والإمارات إلى واجهة الصراع المحلي، إلى تنازع قوى محلية وإقليمية الهيمنة على موانئ البحر الأحمر، إضافة إلى تنامي الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، الذي دفع حدّة المعارك إلى مستويات عليا، بما في ذلك نشوب حربٍ أخرى تتحرّك بموازاة الصراع الإقليمي السعودي - الإيراني، والمتمثلة بحرب الظل بين إسرائيل وإيران، إذ شهدت الأعوام الثلاثة السابقة هجمات متبادلة بين إسرائيل وحلفائها من جهة، وإيران ووكلائها من جهة أخرى، تنوعت من استهداف ناقلات نفطية وسفن تجارية وعسكرية، وهجمات على قواعد عسكرية في سورية والعراق، وتنفيذ اغتيالات، فضلاً عن الهجمات السيبرانية المتبادلة، ومثلت الساحتان، العراقية والسورية، مسرحاً رئيسياً لمعارك الردع بين إسرائيل وإيران، إلى جانب المياه الإقليمية اليمنية التي أصبحت ساحة ردع موازية، وذلك لغياب سلطة مركزية تشرف على خطوط الملاحة الدولية، نتيجة انتزاع السعودية الوصاية من وكيلها، السلطة الشرعية، وإخضاعها الموانئ والشواطئ اليمنية لسيطرتها، مقابل تغوّل سلطة جماعة الحوثي في اليمن ودخولها المعركة، وكيلاً عن إيران، ومن ثم تضاعفت الهجمات على سفن تجارية وناقلات نفطية في البحر الأحمر في العام المنصرم، امتدت إلى بحر العرب، حيث استهدفت السفينة الإسرائيلية "أم تي ميرسر ستريت" في يوليو/ تموز الماضي، وقتل اثنان من طاقمها، أحدهما بريطاني الجنسية، وترتب على الهجوم إنزال قوات بريطانية محدودة في مدينة المهرة اليمنية لتأمين الملاحة، ومع تعدّد هجمات حرب الظل واختلاف أهدافها والقوى التي تقف خلفها، فإن عملية استيلاء جماعة الحوثي على سفينة الشحن "روابي"، تتقاطع مع هجمات حرب الظل التي تشهدها المنطقة، وذلك في أهدافها السياسية الإقليمية، إلى جانب أهدافٍ أخرى محلية تتعلق بتحولات المعارك التي تجري في حرب اليمن.
يأتي توقيت استيلاء جماعة الحوثي على السفينة الإماراتية "روابي" مؤشّراً لا يمكن إغفاله على ترابط أجندات الوكلاء مع رعاتهم الإقليميين، إذ تزامنت العملية مع حلول الذكرى الثانية لاغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سُليماني، في غارة جوية أميركية بطائرة مسيرة في بغداد عام 2020، اشتركت فيها الاستخبارات الإسرائيلية، وتزامن هجوم جماعة الحوثي أيضاً مع عمليات عسكرية قام بها وكلاء إيران ضد مصالح القوى الدولية الموالية لإسرائيل، حيث استهدفت القاعدة العسكرية الأميركية في بغداد بطائرتين مسيرتين، وإن لم تنسب إلى جهة محدّدة، إضافة إلى اختراق موقع الصحيفة الإسرائيلية، جيروزاليم بوست، واستبدال الصفحة الرئيسية بصورة رصاصة تنطلق من خاتم كان يضعه سُليماني في إصبعه.
ومن ثم أرادت إيران بهذه الهجمات التي نفذها وكلاؤها في اليمن وفي المنطقة إرسال رسائل سياسية إلى إسرائيل وأميركا وحلفائهما تؤكد مقدرتها على تنفيذ هجوم متعدّد المحاور والأهداف، وفي وقت واحد للانتقام من مقتل سُليماني، وكذلك للضغط على أميركا بعد تعثر المفاوضات في الملف النووي الإيراني.
وتكشف الدقة العملياتية والاستخباراتية لاستيلاء جماعة الحوثي على السفينة الإماراتية خبرة ومهارة تفوقان قدراتها ما لم تحصل على إحداثيات السفينة من طرف إقليمي. ومن جهة ثالثة، يمثل اختيار الهدف أيضاً مؤشّراً آخر على معارك الظل بين إسرائيل وإيران، وإن تقاطعت معها سياقات الحرب في اليمن، إذ تُعَدّ الإمارات الحليف الرئيس لإسرائيل في منطقة الخليج، وتضاعفت علاقتهما مع تطبيع العلاقات بينهما ومحاولة تشكيل محور إقليمي ضد إيران. أما في ما يتعلق بأهداف جماعة الحوثي على الصعيد المحلي بتوجيه ضربةٍ إلى الإمارات، فذلك لأنها طرف إقليمي في حرب اليمن، وهي تدعم قوات عسكرية مناوئة للجماعة، إضافة إلى تغير خريطة المعارك في الأسابيع الماضية، التي أدّت إلى تكبيد الجماعة خسائر في بعض الجبهات، حيث دفعت السعودية، إلى جانب الإمارات، قوات حلفائها في الساحل الغربي، لخوض معارك في جبهات مدينة شبوة ضد مقاتلي جماعة الحوثي، ومن ثم أرادت الجماعة، إلى جانب دعم حليفها الإيراني في معركته الإقليمية ضد إسرائيل وحلفائها، تحقيق انتصار سياسي على الإمارات والسعودية في اليمن، وكذلك تقديم نفسها أمام أنصارها قوة محلية تحمي سيادة المياة الإقليمية اليمنية، وإن بغرض الاستهلاك الدعائي، للتغطية على خسائرها في جبهتي بيحان وعسيلان في شبوة، بشرعنة استيلائها على السفينة، بذريعة أنها ذات طبيعة عسكرية جرى السيطرة عليها في المياه الإقليمية اليمنية.
بوصفها دولة إقليمية مُتدخلة في حرب اليمن لمصلحة وكيلها المحلي، السلطة الشرعية، خضعت السواحل اليمنية والممرّات المائية طوال سنوات الحرب لإشراف السعودية، للرقابة على النشاط الإيراني وعرقلة وصول الأسلحة إلى وكيلها في اليمن، إلى جانب تأمين الملاحة الدولية، تدعمها، في هذه المهام، البحريتان الأميركية والبريطانية.
ومع أن الوصاية التي تمتعت بها السعودية على السواحل اليمنية بموجب وقوع اليمن تحت البند السابع كان بهدف تأمينها حركة الملاحة، فإن النشاط العسكري السعودي تكثف بقصف زوارق الصيادين اليمنيين، والتسبب بمقتل وإصابة مئات منهم، إلى جانب اعتقال الصيادين ومنعهم من مزاولة أعمالهم وحرمانهم مصدر رزقهم، إضافة إلى عرقلة وصول سفن المساعدات الإنسانية والمشتقات النفطية إلى المناطق التي تخضع لنفوذ جماعة الحوثي، ومن ثم تحوّل مهامها الإشرافية على السواحل اليمنية إلى عقاب اليمنيين ومضاعفة معاناتهم.
فقد كشفت عملية استيلاء جماعة الحوثي على السفينة الإماراتية "روابي" ليس فقط فشل السعودية، بوصفها دولة متدخلة في اليمن، ودولة مطلة على البحر الأحمر في تأمين الملاحة الدولية، وإنما تفوّق إيران في إدارة هذه الحرب لمصلحتها ومصلحة وكلائها، إضافة إلى تناقض الأولويات السعودية في إدارة الحرب في اليمن. ففيما صنفت الرياض، طوال سنوات الحرب، مدينة الحديدة وميناءها مصدراً لتهديد أمن الملاحة الدولية، وإعلانها معركة تحرير الحديدة، قبل سنوات، لهذه الغاية، فإنها سحبت القوات المشتركة من مدينة الحديدة منتصف العام الماضي (2021) لحسابات سياسية أخرى، ومن ثم سمحت لجماعة الحوثي ببسط سيطرتها على ميناء الحديدة، وموانئ أخرى، واستمرار التهديد.
ومن جهة ثانية، كشفت أزمة السفينة "روابي" عن ضعف القدرات السعودية، على المستويين، اللوجستي والعسكري، إذ أعلنت جماعة الحوثي سيطرتها على السفينة قبل إعلان التحالف العربي، فيما صرّح المتحدث باسم التحالف، العميد تركي المالكي، أن "روابي" سفينة شحن تجارية تحوي مستشفىً ميدانياً فُكِّك في جزيرة سُقطرى اليمنية، كانت متجهة إلى ميناء جيزان السعودي، واعترضها مسلحو الجماعة خارج المياة الإقليمية اليمنية، المحدّدة بـ 12 ميلاً بحرياً، على بعد 23 ميلاً بحرياً عن الساحل الغربي اليمني، وعدا عن إدارة معركتها في اتجاه تصعيد الحرب في اليمن، وذلك بالتهديد بقصف موانئ الحديدة والصليف تحت ذريعة عسكرة جماعة الحوثي لها، فإن السعودية تهدف، من جهة، إلى توظيف الحادثة مع قوى أخرى لتدويل أكبر لأمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
ومن جهة أخرى، فصل قضية تأمين الملاحة في البحر الأحمر عن حربها في اليمن، أي منحها السيادة الكلية في الوقت الحالي والمستقبل، للإشراف على الممرّات المائية اليمنية، ولأهمية البحر الأحمر شرياناً حيوياً للتجارة العالمية، حيث تتنافس قوى دولية وإقليمية متعدّدة للسيطرة عليه، سواء الدول المطلة على البحر الأحمر، بما في ذلك أميركا وبريطانيا والصين، فإن خضوع أغلب بلدان البحر الأحمر لحروبٍ أهليةٍ يجعل السعودية ومصر إلى جانب إسرائيل التي أصبح البحر الأحمر منطقة نفوذ بالنسبة إليها، والتي تدفع حلفاءها في المنطقة إلى القيام بخطوة تصعيدية ضد إيران وحليفها في اليمن، القوى الرئيسية في حلبة الضُعفاء، ومن ثم منح السعودية دوراً أكبر لمحاربة إيران ووكيلها في اليمن.
الدول المستقلة التي تفقد سيادتها الفعلية والاسمية لمصلحة حلفائها، بما في ذلك تحوّل أطرافها المحلية إلى مجرد وكلاء رخيصين لتنفيذ أجندات حلفائهم، تصبح دولاً مُستباحة ومباحة تحت ذرائع مختلفة، ومع أن جموح جماعة الحوثي، وكيل إيران في اليمن، هو ما يمنح القوى الإقليمية والدولية الفرصة والمبرّر لتحقيق أهدافها في اليمن، سواء بتهديدها الملاحة الدولية في البحر الأحمر، أو باستمرار رفضها صيانة ناقلة النفط "صافر" ومخاطر تسرّب النفط والتسبب بكارثة بيئية، بما في ذلك تمدّد حرب الوكالة إلى البحر، فإن حسابات المصالح تتفق دائماً على انتزاع غنيمة جديدة من الطرف الأضعف، خصوصاً حين يكون أنقاض دولة محتربة وبلا سلطة وطنية، ليضاف بذلك أوصياء جدد إلى بلدٍ بات بلا سيادة.
* نقلا عن العربي الجديد