دفعت الخسارات الأخيرة في جنوب مارب ساسة وصحفيين - ويا للعجب عسكريين- إلى التباري في نثر أحاديث القدرية عن حتمية الانتصار وانهزام الحوثية.
والنابه فيهم، تكاد فقرات عنقه تتكسر لطول اشرئبابه إلى الأعلى في انتظار أن يرى مروحيات الأباتشي السعودية تحوم فوق جبهات الشرعية المتقهقرة لتقضي على الحوثيين وتصهرعتادهم.
وما فتئ يتساءل عقب كل انتكاسة عن سر عدم انخراط الأباتشي الملكية في القتال!
ما من يمني معافى الضمير ونزيه المصلحة يتمنى سقوط شبر بيد الفاشية الحوثية، لكن عدم سقوط مزيد من الخسارة لا تضمنه الحتميات القاطعة بأن هذه المديرية أو تلك المحافظة لن تشتم زنخ الغازي الحوثي أو ترى سحنته الكابية البغيضة، بل العمل والتغير والإقلاع عن تكتيكات الماضي ومناوراته وجولات الكيد والتناحر بين قوى الجبهة الشرعية الداخلية.
بدافع من ذلك، تحاول هذه المقالة بسط نقاش يبغي الوصول إلى جواب لسؤال الساعة: لماذا نكاد نخسر الحرب؟ وهو سؤال كان حرياً بسلطات الحرب المعنية في الشرعية طرحه على طاولتها منذ مطلع 2019 حين بدأت كل المعارك تنتهي بخسارات مخيبة.
ليست قيادة تحرير
ليس هذا النظام خليقاً بإنجاز مهمة التحرير ولا القادر عليها.
فالنظام الذي على رأسه الرئيس عبدربه منصور هادي نظام تجميعي، جرى تجميعه قطعة قطعة وإلصاقها إلى بعض بصمغ العلاقات الأشد هشاشة.
ذلك أن هذا النظام ليس بقيادة تنظيم سياسي متحد خلف سلطته ويعي أن مسؤولياته لن يحملها عنه آخرون فينهض بها وأن السلطة الممسك بها تعادل الدولة فيصب دفاعة عن إحداهما في إنقاذ الأخرى. ولا بأس حينئذ إن قاتل دون السلطة أو الدولة. المهم أن يدير الحرب كما ينبغي.
ولا هو بالنظام العصبوي - وإن كان لرجالاته سمة العصبوية لكن على انفراد- فتشد أفراده إلى بعض عصبية من نوع ما، ثم ليس هو نتاج عملية ديمقراطية في حقبة ديمقراطية فيستقيل أفراده حين يسقط الأمر في أيديهم ويستبين لهم عجزهم عن الوفاء بمتطلبات الجمهور الذي أوصلهم إلى السلطة.
والأفدح من كل التصنيفات المتقدمة ما حقيقته أن هذا النظام ليس قيادة تحرير مهما وقع في يده من الإمكانات والسلاح والرجال.
فرجالاته محترفو استبدالات: جميعهم اعتادوا هجر المراكب المشرفة على الغرق والقفز إلى سفن نجاة توصلهم مباشرة إلى قصر الحكم الجديد حتى غدت السلطة لديهم متعة وتجارة صرفة خالية من مضمونها الأساس بما هي سيادة سياسية وفرصة لصنع مجد جماعي، ولذا تغلب عليهم طبائع التاجر وشيمه: التاجر المذعور الممالىء والمقايض والنقيض التاريخي للثوري، فضلاً أن جلهم - تقريباً - تجار بالمعنى الحرفي.
وما دامت طبيعة النظام الراهن على هذا النحو من التفكك والطموح الخفيض فمنتهى المجد الشخصي عند أي من رجالاته لا يتعدى جمع أكبر قدر من المصالح الذاتية، الأمر الذي يبدون معه قطعاً متنافرة تهيم كل واحدة وراء ما يشدها من المنافع وبمشقة يجذبها مغناطيس السلطة إلى دائرته في أوقات متباعدة.
ولئن كان الرئيس هادي أحد أقطاب الحلقة المشمولة بتلك التصنيفات فهو أيضاً يرزح تحت وطأة مسؤوليات ضخمة لا تسعفه ملكاته الفطرية أو تجربته الرمادية وعناده في وجه التعلم للتصدي لأعبائها الجسيمة.
بعد تسعة أعوام في الحكم وبتتبع سيرته المهنية منذ رقى إلى قائد سرية مدرعات في قاعدة العند، صار ممكناً اختزال طريقة عمل الرئيس في أنه أحد أفضل من يؤدون مسؤولياتهم من موقع التكليف والتلقي وأضعف من يزاولها من سدة القيادة، ولن يشتمل هذا حتى على نكهة قدح; إذ ليست قدرات جميع البشر مصهورة في قالب تكويني معد للقيادة.
وزاد صعوده إلى السلطة بتلك المصادفة السعيدة الغريبة أن حقنه بالطفيلية السياسية والاتكالية التي ربما أصيب بعدواها أي شخص وجد نفسه على الكرسي دون بذل ذرة جهد أو ارتياد مسلك واحد صعب لبلوغها.
هل من الموضوعي عزو الفراغ والشرود اللذين تتهادى بينهما مؤسسة الرئاسة إلى ضعف الملكات الرئاسية فقط؟
بالطبع.. لا، وحصر المشكلة في هذا العامل سيكون ترجيحاً ساذجاً فليس كل قادة البلدان حول العالم عباقرة في القيادة، إلا أنهم منفتحون على التطور والتفويض ولا يعيقون أداء المؤسسة، وينتقون لتأليف فريق العمل أكفأ الاختصاصيين الذين يكملون ما لا يعطيه القادة.
لكن الحال مختلفة لدى هادي حيث الخوف على فقد المنصب متحفز دوماً وإرادة اللعب على التناقضات السياسية والاجتماعية حاضرة مع عدم إجادته، ويزداد الإشكال تعقيداً باختياراته لأهم مساعديه الذين ينتقيهم ليضعهم أسلاكاً شائكة في السياج الذي يضربه حول منصبه لا ليطور بإمكاناتهم أداء مؤسسة الرئاسة.
وسط قتامة الصورة القادمة من القصر الرئاسي، تومض للرئيس لحظة مجيدة لن يسلبها منه أحد: أيام شتاء 2014 والبندقية الحوثية السافلة مصوبة إلى صدغه فيما قواه تخر من التعب لكنه يتحامل ويتجاسر، رافضاً الإمضاء على مطالب حوثية محمومة بسعار مذاق السلطة البكر.
وسواء دافع هادي بذلك الموقف عن منصبه أو عن رمزيته التمثيلية للجمهورية فهو مدون له، بيد أنه لا يكفي ليتكئ عليه بأداء السنوات التالية. كذلك غير مقبول الاستثمار في الموقف ذاته إلى أقصى اللامعقول وإلا انقلب الأمر إلى ابتزاز. في الواقع، منذ أربعة أعوام واللامعقول هذا هو الأكثر حضوراً. وتقريباً هو الوحيد الذي يواظب في مكاتب الرئاسة ويسير في مماشيها بخيلاء من يشغل أرفع الوظائف.
إذا كان من شروط الثورة حزب ثوري يقودها وينظمها فكذلك حروب التحرير لا بد لها من قيادة ثورية تعبئ طاقاتها وتؤمن بمضمونها وتتمثل أفقها التحرري في سلوكها وخطابها.
وأولى سمات قادة التحرير أنهم لا يشبهون قيادة النظام الممددة على منضدة التشريح الآن. سامقون ألقون في مجرى التاريخ، وأسماؤهم معالم ناصعة وعالية جداً. صلاتهم متجذرة وممتدة مع الحرية والكفاح والثورة، وسيظل إرثهم الكفاحي يظلل إلى آخر التاريخ كل بقعة يقف على صعيدها مقاتلون ينشدون الحرية والتقدم والانعتاق من الاضطهاد. وهم لم يجيئوا في أي عصر بملامح باهتة ومطامح متقزمة كالتي تطبع قادة التجربة اليمنية الراهنة.
نكث الجيوش الفصائلية
تتحور القوى الحاكمة الفصائلية في المحافظات المحررة بإيقاع متدرج إلى سلطات عاملة تحت مظلة الشرعية لكن بعلاقات وسلوكيات مستقلة.
ومع تحورها راحت هذه السلطات تحول بالإيقاع نفسه تشكيلات الجيش العاملة تحت إمرتها إلى قوى شرطوية غايتها الأساس ضمان فرض السيطرة وإبقاء المنافسين السياسيين في الهامش، وتسمين اقتصادات شخصية على حساب الاقتصاد الوطني المنهار، ومنازعة الجهاز الإداري المدني وظائفه.
نتيجة لذلك صار قتال هذه الجيوش شبيهاً بمراوغات السلطات الآمرة فوقها فلا تقاتل كما تقاتل الجيوش ولا كما يقاتل طلاب التحرير، بل تتمرن على أن تقمع بأسوأ طريقة تقمع بها الشرطة.
والمفارقة أنه يصعب العثور على إسهامات معظم الجيوش المسيطرة داخل المناطق المحررة في شرف تحرير الأرض التي تفرد فيها اليوم عضلاتها الخالية من العقل على رفاق السلاح وملاك العقارات أو تبذلها في مواجهات تليق بعصابات المدن.
فهي تسلمت المناطق المحررة بعد انقشاع دخان المعارك كي تكمل المسير على درب التحرير فنكثت بالعهد ونكصت عن المهمة، غارسةً أقدامها داخل الأحياء السكنية وعلى أرصفة الحوانيت ومتاجر الطبقة التجارية المنهكة؛ حيث تشدها جاذبية الجبايات.
والآن لنلقِ نظرة خاطفة على مسلك الجيوش بعدما تسلمت المدن المحررة لتواصل عملية التحرير.
في الساحل الغربي، وطوال ثلاثة أعوام أخذ مسرح الصدام الرهيب على طول الساحل يتبدل تدريجاً حتى استقر في الأخير على أنقاضه مسرح هازل يجسد عليه طارق صالح سيرة الرعديد في التصوير الشعبي: يثب للعراك مشمراً عن ساعديه وقبل الاشتباك مع غريمه يتراجع صائحاً في الجمع المتفرج أن أمسكوا بي لئلا اقترف جرما.
شكل اتفاق ستوكهولم نصف هزيمة وسيجعلها انسحاب "القوات المشتركة" الاختياري هزيمة كاملة إن لم تبرهن على أفضلية قرار الانسحاب لاحقا.
جنوباً ولرهق ما يبذله المجلس الانتقالي منذ سنوات ست في تعيير باقي المضطهدين تحت نير الحوثية بمأساتهم وانتحال نسب تحرير المحافظات الجنوبية وتخصيص العتاد والجند لطرد الحكومات المتعاقبة فقد بلغ به الإعياء حداً لا يستطيع معه التقدم خطوة واحدة عند باب الفاخر بالضالع.
وما انفك يرعد مهدداً الحكومة بأن "صبره لن يطول".
أما في تعز حيث يتماهى حزب الإصلاح ومحور تعز في الأفعال والخطاب فهما في شغل عن مواصلة القتال لتحرير ما تبقى في نطاق عملياتهما إذ تشغلهما مهمتان تبز إحداهما الأخرى في القبح: الأولى، تجريد ماضي الذين حرروا شطراً من المدينة مع شريانه الوحيد من أي فضيلة وشهامة. والثانية، لم شمل المجرمين وأرباب السوابق الخطرين تحت راية عطفهما ووضع الصبغات الملطفة على فوضاهم وجرائمهم اليومية.
أكثر من ذلك أن ملايين ممن كانت أعصابهم ودماؤهم مشحونة بالرفض والتحفز لقتال الحوثية ملئت اليوم يأساً وقرفا.
فلقد غدا هؤلاء ضحايا مرتين: مرةً لإجرام الحوثية وعفنها الكهنوتي المتقيح دناءة ولصوصية، ومرةً لغدر المحررين الذين تركوهم فرائس لفوضى العصابات المسلحة وحكم اللاقانون وتعطيل الخدمات العامة لإحلال خدماتهم التي تمضي في خصخصة الخدمة العامة بصمت، مستغلة الظروف الاستثنائية التي خلقتها الحرب.
وإذا لم ينضبط الجيش ويحترف القتالية في ظل هذه الحرب فربما لن ينضبط أبداً. ولا يسع القيادة العسكرية التذرع بالحرب لتبرير غيبوبة الجيش السائدة لأن الحروب دائماً ما مثلت فرصاً مواتية لإنشاء الجيوش وتنظيمها وتطويرها. والتاريخ شاهد على نخبة من جيوش العالم عبر عصور مختلفة نشأت وتطورت تحت دخان الحرب وضغوطها الرهيبة.
الحرب عمل بالغ الجدية ودقيق الحساب، ويستحيل استغفالها بمظاهر الاستعداد المراوغة وتكديس السلاح للحروب الخاصة ثم انتظار الانتصارات السهلة. وكل محارب ينهج أساليب الحذلقة تتخلى عنه الأرض التي يحارب عليها، فالأرض صعبة المراس للغاية ولا تسلم أديمها إلا لمن يفي بحقه من التضحية والحب والولاء. يقول مسرح الحرب لهؤلاء بتهكم لاذع: أنا أرضكم العطشى وثمن الظفر بي دماء ومهج، لست باحة رخامية لامعة يتوسطها صندوق انتخابي، يمكنكم تزييف بطاقاته. كلا، إن حيازتي لها تكتيكاتها المختلفة، ولا عزاء أنكم تستنسخون تكتيكات السياسة الناعمة لتفوزوا بحرب دامية.
أفضل الإمكانات والطاقات خارج المعركة
2500 كليومتر ساحلية وتضاريس متنوعة من الجبلية إلى السهلية فالمنبسطة وملايين الساخطين على الحوثية والمستعدين لقتالها، وعلاقات داخلية وخارجية متاحة وطاقات متنوعة لا حدود لها خارج المعركة لأن قيادة الشرعية لا تبرع في شيء كما تبرع في إدارة ظهرها لكل ما يرجح كفتها في الصراع.
تكفي جولة في مديرية واحدة من تلك الواقعة ضمن نطاق المرتفعات الغربية أو الجنوبية مثلاً لتذهلك وأنت ترى ما تقدمه الجغرافيا اليمنية من هبات طبيعية خرافية بينها تحصينات ومخابئ وارتفاعات شاهقة وعرة ومساحات مغطاة بالأشجار.
وإذا قيس حجم المقاومة التي يواجهها الحوثيون فلن يكاد يذكر في ميزان ما هو كامن في الشعب والأرض من قدرات بشرية وإمكانات طبيعية وتاريخ بالغ الغنى بأمثولات الكفاح وبطولاته ضد الطغاة والمستعمرين، لكن لم يطرقها أحد لتعبئتها وتنظيمها وقيادتها، بل أبيحت للحوثيين.
حتى إعلانات التعبئة المتكررة لا تتجاوز أبعد مما ألفه المسؤولون البيروقراطيون من اقتطاع معاشات الموظفين غير المنتظمة. ومنذ أربعة أعوام لم تعد التعبئة وحدها التي يجري إطلاقها وفي اليوم التالي يختفي أثرها، بل والمعارك.
لمؤازرة هذا السرد المرسل، ها هو ذا السؤال: هل ثمة مفارقة أكبر من أن جيش الشرعية التي تحت تصرفها الـ2500 كيلو متر ساحلية على البحرين العربي والأحمر يشكو شح السلاح فيما الحوثيون الذين لا ساحل لهم يتدفق عليهم السلاح حمولة تلو أخرى!
يثير إقصاء أفضل القوى والطاقات عن المعركة استفاهماً جديراً عما إذا كانت الاستخبارات بأجهزتها المختلفة ما تزال شيئاً حقيقياً على الواقع وتؤدي وظيفتها، ومدى انخراطها في الحرب.
والسؤال هنا ليس عن الاستخبارات التي تتساوى وظيفتها مع وظائف قوى الأمن في رصد الخلايا المعادية وتفكيكها، بل الاستخبارات التي يُعهد إليها في أوقات الحرب بأشد المهمات بأساً وخطراً، وتتكامل أدوارها مع دور الجيش بل تسبقه إلى ما وراء خطوط القتال وتشارك بإسهام متقدم في حفظ الكيان الوطني حين تعصف به الضربات المعادية.
لذا، يلزم القول ثانيةً إن الحرب أخطر نشاط بشري على وجه الكوكب، إنما لم يسبق أن خيض صراع مصيري بمثل هذا الحس الورع المستكين الذي تضفيه سلطات الشرعية على طريقة إدارتها للصراع.
وحتى تكتمل الحقيقة.. فمظاهر القتال بالظَرَف والتفاهات لا حدود لها: كم من الوزراء والمحافظين والمستشارين والوكلاء من أصناف شتى يبيعون الظرف على مواقع التواصل يوميا! يناضل مسؤول ما للرد على مدونين هُمّل اختصاصهم التعابث الإلكتروني وفي ختامها، يطيل ضحكته بانتشاء قائد فرغ من قيادة عملية ظافرة في العمق الحوثي.
واجهت شعوب وأمم خطر المحو التام. وفي ظروف بالغة التعقيد ومثقلة بأهوال تنوء بها الجبال، قاومت وقاتلت بالعصي والسكاكين والحراب والبنادق العتيقة وسائر الابتكارات المحلية الجارحة.
غطى الفيتناميون سواحلهم بالحراب المغروزة لمنع هبوط المظليين الفرنسيين عليها، وقاتل الفلسطينيون بالحجارة وقاتل أسلافنا العظام دفاعاً عن جمهورية سبتمبر بأجساد مريضة ونصف عارية وببنادق من القرن التاسع عشر في مواجهة جيوش من المرتزقة العالميين مترفي التسليح الحديث، وفي عدن جابه الثوريون المرصودون جيش الإمبراطورية البريطانية بعزائم من الفولاذ وقلوب لا تعبأ بالخوف.
ولو أن كل الشعوب التي قارعت مضطهديها ومستعمريها قررت مصيرها اعتماداً على حظها من المنعة وما بيدها من السلاح لحظة انقضاض المستعمرين أو الطغاة عليها لكانت وقعت وثائق استسلام دون أن تطلق طلقة واحدة.
لكنها أدركت أن أفق المواجهة لا ترسمه لحظات الجزر العصيبة حين تنفد الذخيرة أو تنهد القوى بل هو أفق ممتد بامتداد التاريخ ولا يفعل الذين يقدحون شرارة المواجهة سوى أنهم يشقون دربها ويصنعون المثال. ولولا إدراكهم لتلك الحقيقة لكان القنوط كبهم على وجوههم خضوعاً أمام قاهريهم.
وحدهم الحمقى من يجرؤون على المقارنة بين عمر التاريخ وعمر جيلهم البشري فتتراءى لهم الأحداث المعترضة حياتهم قد اكتسبت جوهرها النهائي ولا طاقة لهم لتغييرها. ودائماً ما فتح هذا الفهم الضيق، أبواباً لليأس المفضي إلى المهادنة ثم الاستسلام.
إدارة الحرب بتصورات جامدة
حروب التحرير ليست استنساخاً لثورات عمالية تشب في المدن فيأتي ترجيع الأرياف ثورياً، إنما هي ابنة ظروفها وقبل ذاك ابنة بيئتها وتناقضاتها.
في العامين الأوليين من الحرب، حين كانت سفن التحالف تبحر لتغطي وجه البر بالعربات المدرعة والعتاد المتنوع وإرعاد مقاتلاته يشق الفضاءات، كان مفهوماً التوجه إلى إسقاط المدن قبل مديريات الريف وإعطاء القتال طابع الحرب النظامية ما دامت متطلباتها متوافرة.
لكن منذ 2018 بعد اقتصار عمليات التحالف على تدخلات دفاعية جوية وبروز حقائق جديدة أهما ضعف تسليح الجيش المتأسس وعدم انتظام معاشات أفراده وسوء تأهيلهم واتساع الصدامات الداخلية، صار حرياً بالقادة العسكريين التحول فوراً من الحرب النظامية إلى مزيج من الحرب النظامية والحرب المتنقلة وإيلاء الأخيرة اهتماماً وأولية.
وفقاً لمبدأ تعلم الحرب بالحرب، من المفروض أن سبع سنوات قد أفادت مخططي حرب الشرعية وعلمتهم دروساً كثيرة من بينها أن دفع الجيش والمقاومين إلى المدن للقتال داخلها وترك الريف للحوثيين كان كمن ألقى نفسه وسط خزنة وأغلقها غير مدرك تعذر فتحها إلا من خارجها.
فلقد كانت نتيجة ذلك أن الحوثيين الذين خلت لهم الأرياف يسرحون ويصولون فيها كما يحلو لهم زحفوا على المدن وضربوا عليها حصاراً مميتاً أحال سكانها إلى حلزونات ضامرة داخل قوقعاتها كما في تعز والحديدة.
ولتأكيد صحة هذه القاعدة، لم تجد تعز ممراً إنقاذياً يخفف شدة الحصار المشدد عليها إلا عبر ريفها الجنوبي حيث تمركزت قوات من المقاومة واللواء 35 ودحرت الحوثيين منه بعد معارك شديدة.
والأدهى أن تركيز القتال في المدن وإخلاء الريف حيث يقطن أكثر من 70% من السكان أمد الحوثيين بما لم يراود أحلامهم من المورد البشري ليستقطبوه إلى فكرتهم العنصرية المنحرفة ويجندوه للقتال في صفوفهم بلا عناء.
لذا، لم يكن لحرب في ظروفنا الراهنة وخارطة توزيع الإمكانات الطبيعية والقتالية إلا أن تتخذ الريف حيث الطوبوغرافيا المساعدة والمعرفة العميقة بولاءات القاعدة الشعبية، نقطة البداية والانطلاق منها لإسقاط المدن.
خلال ذروة الحملة الحوثية على محور الكسارة في مارس الماضي سألت مصدراً عاملاً في الجيش عما إذا كانوا قد أنشأوا خطوطاً دفاعية في محيط المدينة الغربي فرد بالنفي. وكان هذا صادماً، إذ أول ما يفكر به أي قائد عسكري معني بقيادة الدفاع عن مدينة تحت الهجوم ليس إقامة خطوط دفاعية فهي مسألة بدهية، بل أين سيقيمها وعلى أي نمط.
تميل الجيوش المدافعة عن مدن إلى إنشاء ثلاثة خطوط دفاعية، يشتمل الواحد منها على خنادق عميقة وممرات أرضية للمشاة وحقول ألغام وتحصينات هائلة تحوي مواقع ونقاطاً دفاعية مجهزة بالسلاح المضاد للدبابات وسائر الآليات المدرعة فضلاً عن كتل خرسانية وحواجز وأفخاخ شتى.
في وقت متأخر من أبريل الماضي كان الجيش قد أقام خطاً دفاعياً يلي خط القتال في الكسارة، لكن بمعايير تحريفية وتبسيطية لمفهوم الخط الدفاعي الذي راج على مشارف الحرب العالمية الثانية وطورته بقية حروب القرن العشرين.
يعد تجاهل إقامة خط دفاعي بمقاييس تؤهله لصد هجوم قياسي أحد الأسباب المسؤولة عن عدم قدرة الجيش على التحول من الدفاع إلى الهجوم أو على الأقل دفع الخط القتالي الحوثي الممتد من رغوان حتى صرواح إلى الوراء قدر الإمكان طوال ثمانية أشهر.
وللتوضيح، فإن كامل القوة المتاحة للدفاع عن مارب بات عليها ملازمة متاريسها ومواقعها على خط القتال لصد هجمات حوثية شبه يومية وعنيفة للغاية خصوصاً عند موقع الكسارة. وكان على العنصر القتالي البشري وآلياته ومتاريسه الصغيرة أن تؤدي ما كان سيكفله الخط الدفاعي الذي لو أنه أنشئ إبان نذر الهجوم الحوثي وبمعايير ضامنة لاكتفى الجيش بنصف قواته الملازمة حالياً لخط المواجهة وحرك نصفها للمناورات وضرب الإمدادات الحوثية وإحداث نتوءات في رقعة انتشارها والالتفاف عليها.
تنبه مخططو الحرب الحوثية إلى جمود الموقف الميداني في المحور الغربي من جبهة مارب فاستبقوا إلى الحركة، دافعين قواتهم من مديرية ناطع التي استولوا عليها حديثاً نحو بيحان ووصولاً إلى الجوبة.
كان الجيش أحوج ألف مرة من الحوثيين إلى عامل الحركة لتحسين موقفه الميداني وتطويره. وكان أمامه خيارات متعددة انغلق بعضها بعد التقدم الحوثي إلى الجوبة.
ففي الجوبة كان مفتاح الانتقال من الدفاع إلى الهجوم بتحريك قوة من داخل المدينة والالتفاف عبر هذه المديرية ذات التضاريس المعتدلة والنفاذ إلى شرق صرواح لمهاجمة جناح القوات الحوثية الأيسر، الممتد من الزور حتى طرف المديرية الجنوبي وتدميره.
محبط أن الحوثيين بادروا لتطوير هجومهم بفعل كل ما كان ينبغي للجيش فعله لتعميد دفاعاته وتحضير الهجوم المضاد.
ويبقى الثبات الذي أبداه الجيش وقبائل مارب طوال الأشهر الثمانية المنقضية عملاً مترعاً بالبطولة والفدائية والإلهام، أما ملمح الجمود في خطة الدفاع فيلام بشأنه واضعو الخطة التي تبدو مغرقة في البلى ومستوحاة من أفكار الحرب العالمية الأولى بمتاريسها الثابتة.
ومع أنها تؤدي غرضها الدفاعي إلى الآن لكن ملمح الجمود فيها أنها قيدت الجيش عن المناورة والحركة وحرمته من التطور بالحرب الذي كان سيكتسبه بتنفيذ تكتيكات وأساليب قتالية حديثة من شأنها اختراق الموقف وتسريع تحولات المعركة. وهي أكثر ملاءمة للقتال داخل المدن كما يبدو من آلية عملها ومتطلباتها في مقابل فقر تنويعاتها.
ثمن الرهان السياسي الحوثي
يتركز رهان الحوثيين السياسي المرحلي في ألا تطأ الحكومة تراب الداخل ففي ذلك مدخلهم إلى تفتيت وزن الشرعية إلى أن يتآكل ويتساوى مع لاشرعية حكومتهم، إذ كلما طال بقاؤها في الخارج أمكنهم أكثر تصفية مبدأ شرعيتها السياسية في الوعي الشعبي الجماعي وتصفية حضورها المادي بإعاقتها عن مزاولتها لوظائفها.
وجاء هجومهم الصاروخي الدامي على مطار عدن في أثناء هبوط أعضائها في يناير الماضي متناغماً مع هذا الرهان. أما وقد حلت الحكومة في الداخل وواصلت العمل من عدن فلن يكفوا عن محاولات استهدافها مادياً ومعنوياً، وتصدير العمليات الإرهابية والاغتيالات وسائر النشاطات الإجرامية إلى المحافظات المحررة مع توجيه حوادث أمنية من تدبير استخباراتهم في منحى تقويض الثقة بين أطراف الشرعية وتعميق شكوكها إزاء بعض.
يتزامن كل ذلك مع مواصلة حرب لا هوادة فيها على الريال وتشديد سياسة الفصل الاقتصادي التي هيأت لمذبحة سعرية وانهيارات في قيمة العملة لا مثيل لها على الإطلاق.
ليس شاقاً ملاحظة أن هذه مخرجات لاستراتيجية غير عجلى وتعمل بنفس طويل وبتكامل محاورها العسكرية والسياسية والاقتصادية، ولمواجهتها ينبغي للشرعية وضع استراتيجيتها التي لا تنكفئ على الدفاع فحسب.
لم يتبق ترف حتى لكلمة لغو أو لحظة انتهازية واحدة على هامش المعركة. ولا ينطوي على مجاز، القول إننا نكاد نخسر الحرب.
لا وقت اليوم لغير الحقيقة والاتحاد والقتال، ومن يعتقد أن في الوقت فسحة للمناورة بالمواقف أو اكتناز السلاح لمعارك الهامش وتخصيب الخصومات البينية فلن يشفي حمقه غير حقيقة أن الحوثية لن توفره في الغد، بل سيكون أهون ضحاياها بوصفه ضحية بلا عزاء.
وها هي الحقائق اليومية تحيل حمولات الهذر والأوهام التي يجري تنضيدها وتزيينها يومياً حول واقعية السلام مع الحوثية إلى زبد يطفو عند قاعدة يرتفع عليها خياران استغرقا في الكبر حتى شغلا حيز ما عداهما:
إما القتال بقلب رجل واحد دون كينونتنا المهددة بالاقتلاع وهويتنا الثقافية الإنسانية ومواطنتنا، أو طاعون الحوثية.