لعلّ جريمتك النكراء يا صاحبي أنّك أعزل، وحجّته القاطعة أن لديه ما يكفي من الرّصاص، ليرديك قتيلًا.
على أية حال، لقد قُضي الأمر، يتحدّث النّاس عن جريمة قتلٍ تمّت هناك بدم باردٍ، لا زال القاتل باردًا كبطريق في القطب الجنوبي يمارس القتل في برود.
أُغلقت القضيّة- لم يكن هناك قضيّة أساسًا- أُسدل الستار عن مسرح الجريمة، عبرتَ أنت النقطة إلى المقبرة، وبقى هو على المسرح يؤدي دوره، يبحث بلهفة في بطاقات الهويّة عن فصيلة دمٍ جهويّة يتعاطاها.
أي طريقٍ سلكناه إلى هذه النّقطة الموحشة يا صاحبي؟
كنتُ مثلك ومثل الكثير من الأبرياء، لم أتخيّل أن أعزلًا قد يُقتل عمدًا في أي صقعٍ من الأرض، حتّى خطوط الاشتباك مع العدو الغاشم، لكن الأمر الذي استعصى على الخيال حدث واقعًا ويُكرّر ذاته، وأين؟
على تراب الوطن، الوطن الذي تحوّل من حلمٍ إلى كابوسٍ مرعب، لكنّه يجري على يقظة من النّهار.
لا أملك تفسيرًا لظواهر الانقلابات المرعبة وتحول الوطن إلى زومبي يأكل أبناءه بشراهة، وليس لي دراية كافية بهويّة القتلة وما يعبدون، ولكنّي أراهم يلهثون وراء الدّماء مثل كلاب البوليس المدرّبة أو بالأصح المدمنة للهروين.
لم يستحلّوا دماءنا، بل أدمنوها، ومن الصّعب أن يعيش القاتل بلا قتل، وفي تاريخ الجرائم الجنائية شواهد على أفيون الدّم.
عبر إحدى شاشات الأفلام الوثائقيّة، مرتزقٌ عاطش يروي القصّة التي انتهت به- بعد بركة كبيرة من الدّم- خلف القضبان في واحدٍ من سجون المكسيك المسكون بأرباب الحرف اليدوية الأعظم شرًا وبشاعة.
كانت قصّته الملطخة قد بدأت مذُ أن تقاضى أجرًا يقدّر بخمسمئة دولارًا نظير إزهاقه لأول روحٍ آدميّة خلال مسيرته الحافلة بالدّماء والجماجم المتناثرة.
500$ دولار! بالطّبع لقد ألمح بطريقةٍ ما أنه غالى في الأجر، لكن كان ذلك بداية احترافه لمهنة الارتزاق، نظرًا لأن المبتدء في وظيفة القتل المدفوع يتهيّب الدّماء ويستصعب إراقتها، لكن مع تكرار الفعل، يهون الجسيم ويتساهل الشّاق، وبين هذا وذاك يتضاءل أجر الارتزاق شيئًا فشيئا، حتّى أن تسعيرة الإنسان قد تصل إلى عشرين دولارًا كما هي في قصّة المرتزق المكسيكي الآخذة في التّصاعد المريع بين الاستهانة والاسترخاص.
مع المداومة، تصبح الجريمة- أيًا كانت درجتها- اعتيادية كعملٍ منتظم يدر القليل من المال، ثمّ عادة كخدمة تقدّم غالبًا بالمجان، ثمّ تصبح إدمانًا لابد من ارتكابها.
يقول بطل الارتزاق المكسيكي في قصّته إنّه صار يقتل دون مقابل أو إيعاز من صاحب إرب، لا سبب سوى حصوله على الأدرينالين الذي أدمنه بالفعل كحقنة هروين. لم يتوقّف في السّجن عن محاولة الحصول عليه بشتّى الطّرق.
والله وحده يعلم، كم عدد الأنفس التي ازهقها.
ذكر أنه توقّف عن العدّ عند رقم معين، لكن العدد كبير لا يُحصى بالفعل، فالمرء لا يحصي كم مرّة مارس عادةً أو حرفة أو هواية، ولا يمكن لمدمن التّبغ مثلًا أن يخبرك، كم لفافة من السّجائر أحرقها خلال رحلته مع التّدخين.
ولعلّك مثلي تسألت، أين كانت أجهزة الدّولة المكسيكيّة من مأجور يمارس القتل بأريحيّة حتّى أدمنه، وفي النهاية يُلقى في السّجن كموظفٍ أُحيل إلى التّقاعد بعد عجزٍ أو كِبر؟
الجواب لا أدري، ولكن إن لم يُقال أنها دولة تواطأت مع المجرمين، أو بلغ منها الفساد درجة استهانتها للدّماء، فأقل ما يقال أنّها دولة رخوة عاجزة عن تحمل مسئولياتها، وفي كلا الحالتين، يصبح الوطن الواقع تحت سلطتها مخيفًا غير قابل للعيش.
إنّما الأكثر رعبًا وفظاعة أن يكون المرتزق البالغ مرحلة الإدمان هو جهاز أمني يتبع الدّولة ذاتها، لا مطلوب للعدالة ولا يمشي خلال الأزقّة ليلًا، إنّما مجنّد يمارس وظيفة القتل بالبزّة العسكريّة تحت عين الشّمس، مقابل راتب شهري، ورتبة ترتقي سلّمها طلقة طلقة.
عند هذا الحدّ من الارتزاق المرعب يصبح الوطن يمنًا.