لم يمنعك من قول الحقيقة خوف الطغيان ' وما منعك من الاستمرار في قولها إلا الموت الذي اختاره الله لك ولم يختره قاتلوك ' ولولاه لظلت كلمتك صادحة مستمرة تؤرق مضجع قاتليك.. كان كل شيءٍ فيك يزعجهم ' كلمتك يحسبونها رصاصة تتجه صوب صدورهم الملبدة بغيوم الحقد ' وصمتك يرعبهم ' فربما كان من ورائه عاصفة تجتاح وهمهم ' وحركتك تبعث خوفهم ' فلعلك تحيك أمراً يجعل السقف يخر عليهم من فوقهم .. سكونك يثير فزعهم فلعل فيه ميلاد عمل يجتثهم من جذورهم ' لذا كانوا يخافونك متكلماً وصامتا ' متحركاً وساكنا ' حتى موتك الذي ظنوا به خلاصهم من مصدر قلقهم أخافهم ' فأزعجتهم حيا وميتا..
هنيئاً للأرض التي واراك ترابها ' وهنيئاً لك تلك الجموع التي احتشدت تشيعك ' يمسك كل مشارك فيها بنعشك المسجى بلون الوطن ' لعلهم يقتبسون شيئا من شجاعتك ونزرا من رجولتك.. كنت تستطيع أن تجاري خصومك فتعلن تأييدك لهم ولقبحهم ' لكن تجلى فيك صدق المبدأ فآثرت مبدأ الصدق - على ماله من تبعات - فرفضت العودة متأبطاً عار الاستجابة وذل الانكسار ..
لقد قتلت قاتليك قبل أن يقتلوك ' وأذقتهم ضعف الممات قبل أن يذيقوك طعم الحياة التي طالما انتظرتها فجاءتك كما أردت ' وسيدرك قاتلوك خطل ماصنعوا وإنما صنعوا كيد خاسر' لأنهم بقتلك يكونون قد قتلوا السلم الذي يتمنونه لبقائهم ' فقد كنت شخصية محبة للسلام ومؤمنة بالحوار سبيلا لحل الخلافات ' وشهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء..
قد استطاعوا برصاصة الغدر أن يضعوا حدا لعطاءٍ يند عن النظير وطموح يعظم على الوصف والتفسير ' لكنهم أيضا قد وضعوا بالرصاصة ذاتها حدا لأمانيهم وكتبوا بها نهايتهم.
إن تلك الأمواج الهادرة التي تدافعت لتشييع جنازتك هي خطابك السياسي الأخير الذي كتبه موتك بعد أن كانت حياتك حافلة بخطاباتك السياسية التي كنت أنا أحد الذين يتلذذون بسماعها مع كونها في السياسة لا الأدب.. إذا شرع يتكلم انشغلنا عنه ليس لملل أصابنا وإنما لقلقنا من توقفه ' فإن توقف عن الكلام ظهرت علينا أمارات التذمر وقلنا ليته لم يسكت ' فكان طبيعيا أن تظل وجوهنا ملتصقة في وجهه وهو يوزعه ذات اليمين وذات الشمال ' والأفكار تتدفق منه كشلال تستلقف خيراته العقول الظامئة .
كان كثير من مناوئيه وأضداده في العمل السياسي يتهيبون أن يكونوا معه في حوار سياسي لأنهم لايقدرون مجتمعين على دحض حجته ' وربما عادوا مقتنعين بما يقول لكنهم يعجزون عن البوح باقتناعهم ويكتفون بدفنه في نفوسهم.
الشهيد الأستاذ أمين الرجوي شخصية لاتتكرر ' ولئن كانت يد المنون قد اختطفته من بين أيدينا فإنه لايزال حياً في نفوسنا وعقولنا بما ترك من أثر عصي على النسيان..
لم يسقط عند موته كما يسقط المرتعشون عندما يموتون بل كان موته كالشجر الذي لايموت إلا واقفا عندما ينقطع عنها ماء الحياة.
كم شعرت بالأسف عندما لم أكن محظوظا فأشارك في تشييع جنازتك أيها البطل ' فحرمت نبل المشاركة وشرفها ' حينها كنت في مكاني أشيع وفائي الذي مات يوم تشييعك ' إذ كان يجب أن أكون من الشهود في اليوم المشهود .. لقد حزن لموتك الذين يعرفونك لأنهم يعرفونك ' وحزن وندم الذين لايعرفونك لأنك رحلت وهم لايعرفونك بعد أن سمعوا لاسمك دويا يطير في الآفاق يملأ الزمان والمكان ' ورأوا مدينة إب تهتز كأن زلزالا ضربها ولكن بمقياس الرجوي فتساءل الناس مالها؟! فحدثتهم عن أخبارها.
نم أيها البطل قرير العين فبصماتك عصية على المحو ' وروحك ستظل تسري فينا وتجري مجرى الدم في عروق جيل يعشق النور ويكره الديجور .. حقاً إن من الناس من يكون يوم موتهم يوم ميلاد أمة ' وإنك تتصدر قائمة هؤلاء ' فكان يوم وفاتك يوم ميلاد العزة و الشموخ ويوم ميلاد الوجود..