هل هناك ديانة للحرب؟ أقصد: هل تَفرض الحرب نمط تديُّن مختلف عمّا هو في حالة السِّلم؟ ربما يبدو السؤال غريبًا بعض الشيء، لكنه سؤال حاضِر في أذهان الكثير من اليمنيين في زمن الحرب، حتى وإن لم يقولوه صراحة. إلَّا أنَّ الدواوين العامة، والنقاشات اليومية، والأحاديث الدائمة، تَكشف عن حضور مكثف لأسئلة الدين المصيرية في حياة اليمني هذه الأيام. وهي ظاهرة تبدو مفارَقةً عبثية في نظر بعضهم؛ إذ كيف يندفع الناس إلى هذه المساحة من النقاشات الدينية والروحية في أوقات الصراع، التي يَفترض فيها بعضهم توقُّف الناس عن الخوض في كل ما له صله بالأحاديث الفكرية والماورائية؟
خلال سنوات الحرب الفائتة، قابلتُ العديد من الشباب اليمنيين الذين قرروا تبديل أنماط تدينهم. بعضهم ذهب إلى معتقدات جديدة كليًّا، وبعضهم الآخر اتجه إلى المنطقة الرمادية، أي إلى ترك كل شيء خلف ظهره والعيش في مساحة التخلي، في حين برزت حالة الهشاشة الدينية بقوة، في الإجابة عن الكثير من الأسئلة الرئيسية التي خلَّفَتها الحرب لدى بعضهم. الموقف السياسي انسحب أيضًا على المساحة الدينية. وبِناءً على ذلك، أُعيدَ فرز التاريخ الديني وبعض رجالاته بما يتوافق مع السردية السياسية المرافِقة للحرب.
في المقابل، برز الكثير من الشباب الذين أعادوا اكتشاف أنماط التدين خاصتهم، وعزَّزوا تمسكهم بالسائد. القاسم المشترك بين هؤلاء الشباب هو ربط تحولاتهم بحالة الحرب، والتي تطفو على السطح في توصيفهم لحالات التحول التي يعيشونها؛ أيْ أن العلاقة الجدلية بين الحرب والحافز الديني، كانت حاضرة بأنماط عدة في اختياراتهم الجديدة، سواء بالإقرار أو بالإنكار.
تبدو هذه الظاهرة جديدة على المجتمع اليمني، وهو المجتمع الذي لطالما وُصف بمُفرَدة "المحافظ"، وهو توصيف يضعُه اليمني في خانة المناقب الإيجابية، ويشير به إلى التمسك الشديد بالعادات والتقاليد، سواءٌ دينيةً كانت أو اجتماعية. ولمَّا كانت الصراعات أمرًا متكررًا في السياق اليمني، خصوصًا منذ ستينيات القرن الماضي، فإنَّ الجديد في حرب العقد الأخير هو في مدى اتساعها، وظرفيتها الزمنية التي ترافقت مع تبادلية هائلة للمعلومات. وهو الأمر الذي سمح بنفاذ الأفكار وأحاديث النفس إلى خارج الأوعية التقليدية، وحصول تفاعلات فكرية، كانت محصلتها أنماطًا جديدة من علاقة الأفراد بالدِّين.
إن الحرب مَثلُها مَثلُ أيِّ حدث عصيب، تحفز المراجعات الذاتية للكثير من الأفراد، وتُعيد للواجهة الأسئلة المصيرية المتعلقة بالبعد الأخروي، أيْ أنها موسم مكثف للتأملات الفكرية، وتترك مفاعيل كثيرة. وهو أمر نلحظه في الكثير من المجتمعات، التي اختبرت فترات حروب وصراعات.
يسجل المؤرخ "توماس غروسبولتينغ" في كتابه "الجنة المفقودة: العقيدة في ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، التغييراتِ الدينيةَ التي طرأت على المجتمع الألماني منذ عام 1945. فبحسب ما أورد: "في خمسينيات القرن العشرين كان 95% من الألمان ينتمون إما إلى الكنيسة الكاثوليكية أو إلى الكنيسة الإنجيلية. أمَّا الآن فينتمي إليهما ثُلثا الألمان فقط، وهي نسبة تتجه إلى الانخفاض، في حين أكثر الطوائف نموًّا في المجتمع الألماني هي طائفة من لا ينتمون إلى أي دين، وهي فئة تختلف عن الملحدين". لا يمكن إغفال عوامل التغيير الأخرى، لكن يبقى للصراعات آثار بالغة التأثير في هذه التحولات.
يمكن تبويب مفاعيل حرب اليمن على العلاقات المجتمعية ضمن نمطَين اثنَين. الأول منهما: تحوُّل الكثير من أصحاب التدين الشعبي إلى الإيديولوجيا الدينية الشعبوية، وهي ظاهرة أفرزها التوظيف السياسي والحربي للخطاب الديني. ويتمثل هذا النمط بانخراط بعض الأفراد في الحرب لدوافع معزَّزة دينيًّا، ويساند ذلك مشاعر الإحساس بعبثية الحياة، التي ولَّدَتها بؤس الحرب. أما النمط الثاني، فهو نمط آثَرَ الهروبَ من الواقع إلى المدرجات، واستمر في إعادة طرح سؤال العلاقة بالدين، ومدى سلامتها، وما الذي يمكن تغييره، مستخدِمًا تأملات الصراع حافزًا على الأسئلة. وسواء نتجت أجوبةٌ مقنعة عن هذه الأسئلة، أو هروب وتجاهل لها، تظل هذه المساحة هي العنصر الجديد الذي عظَّمَت وجودَه الحربُ، وجعلت منه مادة للتفكير الدائم.
*نقلا عن موقع تعددية.