سنة أولى احتجاز.. في الأمن السياسي بصنعاء
الأحد, 05 أبريل, 2020 - 04:38 مساءً

كادالمحقق أن يصفعني .. ونحن في مبنى الأمن السياسي الواقع في الحي السياسي بصنعاء وفي الغرفة المجاورة لغرفتنا كانت هناك غرفة صغيرة وبداخلها كان طاقمي الصغير وهما سائق ومصور وكلاهما يعملان في الجزيرة ولا مجال لذكر اسميهما حاليا.
  كلا الزميلين كانا خائفين ولا أنكر أني كنت خائفا قليلا ولكني كنت أعرف أن الإحتجاز لن يستمر سوى ساعات لثقتي بقدرة الجزيرة على إخراجنا من السجن فاسم الجزيرة كان قويا لدرجة غيرمعقولة.
  كان ذلك في العام 2006 عندما فر ثلاثة وعشرون سجينا متهما بالإنتماءلتنظيم القاعدة من سجن الأمن السياسي بصنعاء في قصة محبوكة هي أقرب للخيال منها للواقع ولايمكن مشاهدتها إلا في الأفلام.

لازلت أتذكر من الرواية أن السجناء الذين لاحقهم فيمابعدالأمن والطيران الأمريكي وقتل معظمهم حفروا بملاعق الطعام نفقا إلى المسجد المجاور ثم هربوا أثناء صلاة الفجر وهي رواية غيرمفهومة حتى الآن .
  كانت الرواية الأمنية تقول إن الفارين قاموا بحفر نفق من داخل سجن الأمن السياسي بطول 70 مترا، إلى المسجد البعيد عن السجن، وفروا منه إلى مكان غير معروف".

تقول الرواية أيضا إن الحفر من زنزانة جماعية (عنبر) إلى حمامات المسجد، استغرق قرابة الشهرين.
  كان قاسم الريمي زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقتله في فبراير الماضي2020م آخر من بين الفارين من سجن الأمن السياسي في الثالث من فبراير2006م ومن المصادفات الغريبة أن مقتله جاء في نفس الشهر الذي تمت فيه عملية الهروب الكبيرة.
  ثلاثة عشر من الفارين الثلاثة والعشرين، كانوا متهمين في حادثة تفجير المدمرة الأميركية "كول" وناقلة النفط الفرنسية "ليمبيرج"، وكان بينهم جمال البدوي المتهم الثاني في القضية، وهو نفسه الذي قاد عملية الهروب السابقة، لمتهمي كول، من سجن عدن بعد حفره هو و 8 من رفاقه منفذاداخل دورة مياه السجن، ولاحقا اعلن الرئيس الأمريكي ترامب عن قتله في يناير2019م قائلا بأن ذلك قصاصا لمقتل 17 بحارا أمريكيا أثناء الهجوم على المدمرة الأمريكية كول عام2000م أثناء تزودها بالوقود في ميناء عدن.
  من بين الفارين أيضا "محمد علي سعد، وفوزي محمد الوجيه، وفواز نجيب الربيعي، وحزام صالح مجلي، وإبراهيم محمد الهويدي، وعارف صالح مجلي، وعمر سعيد جار الله،ومحمد أحمد الديلمي.
  وجميعهم أسماء معروفة إعلاميا ولاحقا شاهدتهم أثناء حضورنا محاكماتهم في محكمة أمن الدولة بصنعاء أو ماكانت تسمى بالمحكمة الجزائية بصنعاء وقد كانت محاكمات صورية يهدف منها النظام إلى إقناع الولايات المتحدة الإمريكية بأن حربها ضد أفراد التنظيم حقيقية.
  كنا نلتقي بعوائل هؤلاء المتهمين أثناء حضورهم المحاكمات وكان القضاة في هذه المحكمة يسمحون للمتهمين بالحديث والدفاع عن أنفسهم أحيانا وهو مايمكننا من سماع سجالات مثيرة للإنتباه لكثير منهم وبينهم قاسم الريمي.
  لاحقا قامت إحدى القنوات العربية ببناء رواية لفيلم وثائقي حول القصة مرتكز على إساس رواية الملاعق والأشواك وأدوات المطبخ وسمح لها من قبل السلطات بالتصوير !!
  كان ذلك الحادث في بداياتي مع الجزيرة ولكنه كان أول احتكاك عملي وحقيقي بالأمن والسلطات ومن بعدها حتى مغادرتي لليمن تعرضت مرات عديدة للإعتقال والاحتجاز والملاحقة ومصادرة الكاميرا وشرائط الفيديو لكنني تعلمت لاحقا كيف أفلت وألا أكون في الواجهة ، ثم تعلمنا جميعا كيف نجهز شريطي فيديو نصور بأحدهما ونستبدل الآخر فإذا قام الأمن بتفتيش الكاميرا يضطر لأخذ الشريط الفارغ من الكاميرا فيما نحن محتفظين بالشريط الأصل، ثم تعلمنا كيف نخبئ الأشرطة في السيارة ولكن في العادة كانت تبوء خططنا بالفشل قبل أن نحترف أساليب إخفاء الأشرطة والنجاة بصيدنا!
  أثناءمرورنا بجانب المسجد المجاور للأمن السياسي بغرض تصوير لقطات من هناك لإعداد تقرير عن الهروب اعتقلنا أفراد الأمن وأخذوا السيارة والكاميرات والتلفونات وهكذا صرنا في عداد المفقودين واختفت أخبارنا غير أن الزملاء في المكتب كانوايعرفون أين ذهبنا.
  أدخلونا بوابة خلفية في مبنى الأمن السياسي وكان مكانا معزولا لاأعرف حتى الآن أين هو رغم أنه لاحقا وبعد ثورة2011م كان سكني يطل على المبنى وهو مبنى كبير ومحصن بطريقة لاتمكن ثلاثة وعشرين سجينا من الهرب بطريقة الحفر بشوك وملاعق!
  ثم استلمنا انا وزميلي ضابطان يلبسان زيا مدنيا وليس عسكريا أحدهما كان يبدو متعاطفا معنا والآخر مازلت أتذكرملامحه القاسية ومحاولاته الإيقاع بي للدخول في اشتباك معه .
  بدأ أولا باستجواب السائق ثم استجواب المصور وكان كلانا يسمع الحوار في الغرفة المجاورة ويستمر التحقيق عشرون دقيقة وينتهي بمحضر وتوقيع.
  استدعاني بعد زميلي وبدأ الحوار على هذا النحو:
اين تعمل؟ ولماذا جئت ألى هنا؟ ومن أرسلكم ؟ ألاتعرف أن هذا هو مبنى الأمن السياسي؟
كنت اتصنع الهدوء ومن المصادفات أنني كنت أحمل بيدي مسبحة ظللت احتفظ بها طيلة وقت التحقييق الذي استمر نحو ساعة.

ثم تحول التحقيق على النحو التالي :

لماذا تخونون الوطن ؟ إلا تعلم بأن ماتقوم به خيانة ؟ وكثير مثل هذه الأسئلة التي لا أتذكرهاوالتي كانت تستحق الرد.


وكنت أنظر في ملامح المحقق فأجد انتظارا منه فقط لأي رد فعل مني ليقوم بصفعي لكنني لم أفعل واستمريت في اصطناع الهدوء ! خوفا من أي اعتداء.
وقعت على إجاباتي جميعها في محضر طويل تمنيت أن أعثر على هذا المحضر يوما ، واستمر الاحتجاز لساعات قبل أن تقوم الجزيرة بنشر أخبار عاجلة عن اعتقالنا وتقوم السلطات بالإفراج عنا بعد متابعة الزملاء.
  بعديومين فقط من هذه الحادثة نقل إلي أحد الزملاء عرضا عن شخص التقيته فيمابعد واحتفظ باسم الزميل بأن الفارين الثلاثة والعشرون يطلبون إجراء حوار تلفزيوني مع الجزيرة.
  وقال بأنهم موجودون في صنعاء ومستعدون لإجراء اللقاء بينما كانت السلطات الأمريكية تعلن بأنها جندت كل إمكانياتها لإلقاء القبض على الفارين الذين وصفتهم بالخطرين وحذرت كل سفنها في البحر من ذلك نظرا لخبرة الفارين في تنفيذ هجمات ضد السفن والبوارج العسكرية وكذلك فعلت فرنسا.
  وأصدر الأنتربول حينها تحذيرا عاجلا من اللون البرتقالي، بأن "الهاربين يشكلون خطرا على مختلف الدول"، واعتبر المتحدث باسم البيت الأبيض، سكوت مكليلان الهرب بأنه "تطور مخيب للأمل أن يفر أعضاء القاعدة، لاسيما أن أحدهم "استهدف أميركيين وقتلهم".
  فكرت في الأمر سريعا وفضلت الرفض واتفقت مع الزميل مراد هاشم مدير المكتب حينها وكان موفدا للجزيرة في الصومال بأنه من الصعب إجراء حوار في مثل هذا الوقت إن كان ماعرض حقيقيا وأبلغت حامل الرسالة بأنني لن أتمكن من إجراء المقابلة.
  بالنسبة لي ظلت نظرتي للقاعدة وأمثالها من تنظيمات الإرهاب بأنها حركات وتنظيمات مخترقة من قبل السلطات وكم سمعت من سجناء القاعدة في العلن أثناء حضوري محاكماتهم في المحكمة الجزائية مايشير إلى علاقات وثيقة مع السلطات ثم لاحقا تم كشف هذه الأوراق والأمريكان أنفسهم تحدثوا عن استخدام صالح ونظامه تنظيم القاعدة في أعمال إرهابية بقصد جلب الدعم والإبتزاز.
  ومن هنا كان سبب الرفض بالإستجابة لإجراء لقاء مع الفارين الثلاثة والعشرين حتى لا نقع في فخ لانعرف من دبره أويتم استغلالنا ناهيك عن المخاطر الأمنية وهي كثيرة!

التعليقات