عندما قال مذيع للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل وهو يتحدث عن منزله الطيني وفقر أسرته المدقع في الطفولة، هل تشعر بالفخر من هذه الذكريات؟ قال ساراماغو، إنها أشياء لا تدعو إلى الفخر أو الخجل، بل هي بيانات لا أرغب أبدا في نسيانها، حياتي هي كل تفاصيل هذه الحياة.
أقرأ ما يكتبه الأدباء والكتاب والمفكرين في مذكراتهم.. هناك من يكتب تفاصيل حياة قد لا تهم غير كاتبها وهناك من يكتب حياتها كما عاشها.. بعض هذه الكتابات ذكريات ومذكرات وبعضها اعترافات صادقة وشجاعة لأن كاتبها قرر أن يكتب كل شيء كما هو وبنفس المشاعر التي عاشها في تلك اللحظات، وقت الفعل ذاته.. هذا شيء صعب بحد ذاته.
لماذا نخجل من بياناتنا ؟ لماذا نقدم أنفسنا للمجتمع بصورة نقية ونحن مخطئون وتافهون أحيانا وجبناء، يملؤنا الطمع والجشع.. حياتنا التي نقدمها للناس لا تمثل إلا جزءا بسيطا من صورتنا الكاملة، تلك الصورة الوحشية المخيفة المختبئة في الخلف والظلام، خلف الأشياء التي نفكر بها ونفعلها ونحن وحيدون.. خلف تلك الأشياء التي نتمنى فعلها ولا نستطيع.
هذه الاعترافات بحسب معرفتي المتواضعة ابتدأت باعترافات جان جاك روسو وطريقته في كتابة كل ما يعرفه عن تفاصيل حياته.
قبل قراءتها لم أكن أتوقع أن هناك إنسانا يمكن أن يكتب كل شيء يعرفه عن نفسه، لكنها شجاعة روسو وقد أذهلت أوروبا كلها وأذهلت شابا قرأها في ليالٍ طويلة بعد أكثر من قرنين ونصف على كتابتها.
كل ما يمكن أن يكون قذرا وجيدا ستجده في هذه الاعترافات.. تفاصيل كل مغامراته الجنسية مع الصغيرات والكبيرات وكل القذى الفاحش أو النبل المطلق.
في العشرين من عمره توفي صديقه الحميم جدا، فذهب إلى المرأة التي كان يدعوها "ماما" وكانوا ثلاثتهم يعيشون سويا.. لقد كان صديقه على قدر كبير من نبل الأخلاق والمشاعر ما يجعله متفوقا على روسو بشكل كبير، وفي أحد الأيام توفي هذا الصديق فذهب روسو في اليوم التالي ليقول لـ"ماما": سآخذ المعطف الذي كان يرتديه صديقي، نظرت إليه ماما بطريقة مؤثرة وانفجرت باكية من الحزن والألم، وأخذت جميع ملابس ذلك الذي مات لتوه وألقت بها في سلة المهملات.. هذا الطمع الإنساني الفريد الذي لم يعبأ بالموت قال عنه روسو لم أقف بعد ذلك مرة أخرى في حياتي موقفا مخجلا ونذلا كهذا..
هذه المرأة التي كان يناديها "ماما" والتي كفلته صغيرا حين كان مشردا وبلا مأوى ضاجعها بعد سنوات وكتب ذلك أيضا.
جاك روسو الذي يعرفه الناس في "العقد الاجتماعي" و"إميل" و "جولي" مختلف تماما عن روسو الذي في الاعترافات.. كانت بالنسبة لي أبعد صورة تخيلتها عنه.
لا يمكن لاعترافات أي شخص أن تكون أخلاقية.. الاعترافات لا تعرف الأخلاق وليس لها علاقة بالدين أو العيب، هي ليست رسالة في التربية الأخلاقية أو التعاليم الروحية، وإذا كنت تنتظر ذلك فاقرأ شيئا آخر.. عليك أن تكتب الإنسان كما هو وكما هو فقط دون أي محاولات للتجميل أو التبرير.
لا أتذكر اسم الكاتب العربي أظنه القصيمي الذي كتب في مذكراته بأن أباه كان يجلب الصبيان يوميا في المساء إلى الطابق الثاني من منزلهم ثم يقوم بإغلاق الغرفة..
بعد سنوات هيأ الله لهذه الغرفة المغلقة ابنا أديبا وعاقا كشف للعالم كل ما كان يحدث سراً في داخلها.
المذكرات التافهة ليست جديرة بالإعجاب.. ما يدهشنا هو شيء آخر، هي الاعترافات التي تؤلم حتى كاتبها ولكنها الحقيقة والإنسان، المخلوق الذي يدهش الآلهة بطهره ونقائه ويدهش الشياطين بشره ومكره.