ليس جديداً، ولا طارئاً في التاريخ السياسي اليمني المعاصر أن يصل فرقاء الساحة اليمنية إلى تسوية سياسية تنطوي على تنازلات شجاعة متبادلة، وتخرج الوطن من ثقب إبرة التنافي العدمي، وليس جديداً أيضاً، أن يكون لدول الجوار الخليجي العربي دوراً أساسياً في تلك التسويات التي تُبهر العالم بخروج غير متوقع من حالة الاحتراب إلى التعايش والتكامل.
حدث هذا الأمر في عدة حروب بينية بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي سابقاً، كما حدث أيضاً أثناء الحرب التي استعرت بين أنصار الملكية الإمامية في الشمال، وأنصار الجمهورية في الجنوب والشمال.. يومها قامت المملكة العربية السعودية بدور خاص في التسوية التي مهَّدت لاتفاق الملكيين والجمهوريين، على قاعدة استمرار النظام الجمهوري، ومشاركة ممثلي التيار الملكي في مؤسسات الدولة، وهو الأمر الذي كان له أثر بالغ في تركيبة الجمهورية العربية اليمنية في شمال اليمن، وكذا العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية اليمنية الشمالية، وبالمقابل ظل الجنوب متمترساً في مربعه الخاص، حاملاً شعار التحديث والتنمية والوحدة اليمنية، كما كان الجنوب سباقاً في تحديد معالم وحدة مايو الفاشلة على قاعدة التعددية الحزبية، والتداول السلمي للسلطة.
تلك أيام خلت وانتهت، لكنها تركت أثراً بالغاً في السيكولوجيا السياسية اليمنية، ولعل تطورات ما بعد أحداث الانتفاضة الشعبية العارمة المُطالبة بتغيير نظام علي عبدالله صالح في عام 2011م، جاءت لتؤكد المسار ذاته، فالمبادرة الخليجية استلهمت في جوهرها الحكيم، تلك القابلية اليمانية للتوافق السياسي على قاعدة التشارك رغماً عن الخلاف والاختلاف، وهذا ما بدا ظاهراً منذ قبول صالح ورفاقه بالمبادرة الخليجية، ومشاركة حزبه في تناصف الحقائب الحكومية، والتحاق الحوثيين علناً بالعملية السياسية بعد المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، وإشهار أنفسهم كحزب سياسي.
يومها بدت الأُمور أقرب للحكمة اليمانية، غير أن مؤسسة صالح الخفائية أضمرت تماماً عكس ما تقول به، وتُعلن، وقد سعى صالح بكل الجهد للانقلاب على الشرعية، مستغلاً «أعداء الأمس» القريب من الحوثيين، الذين وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها في قلب الواجهة السياسية، فيما ظل المحرك الأكبر للتراجيديا الدموية بيد صانع الانقلاب.
أسقطت مخططات صالح الانقلابية السافرة كامل الحكمة والمنطق العاقل، وأدخلت اليمن في دوامة عاصفة، أقضّت مضاجع دول الجوار العربي، وفتحت شهية النموذج الثورجي الإيراني، وأقحمت الحوثيين في معادلة كوموتراجيدية، حتى استوْهموا أنهم أسياد الأرض والسماء، واندفعوا دونما حسبة واحتساب لجغرافيا المكان والزمان، فكان التصدي المباشر لهم منذ أول عتبات اجتياحاتهم الفوضوية سمة غالبة، فقد بدأت ملامح التصدي الشعبي المقاوم في رداع، وإب، وامتدت إلى الضالع وتعز ولحج وأبين والحديدة وعدن، ثم انعطفت لتحاصرهم في معاقلهم الفولكلورية هنا وهناك، وبالمقابل تصدت دول التحالف العربي للتحدي الاستراتيجي من خلال متوالية «عاصفة الحزم» و«حملة الأمل» والدعم اللوجستي المباشر للجماهير المُحاصَرة بالحرب وتجفيف منابع الحياة.
وبالقدر الذي كانت فيه التوافقات اليمانية سمة غالبة في محطات متعددة، إلا أن المكر والخديعة المقرونة بالمكايدات السياسية العقيمة لم تكن بعيدة عن الساحة، فمنذ الصراع الإمامي القديم بين بيت الوزير وبيت حميد الدين في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم، شهدت ساحة المملكة المتوكلية الإمامية اليمنية تنازلاً إجرائياً للإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، تاركاً السلطة لبيت الوزير، غير أنه أخفى مخططاً مغايراً، فاستغل العفو الشامل الذي منحه إياه الوزيريون«نسبة إلى بيت الوزير»، فقام بتجييش بعض القبائل الموالية له، واقتحم العاصمة صنعاء، بل أباحها للناهبين والقتلة الاعتياديين، وهذا بالضبط ما فعله صالح في استغلاله الحوثيين لاقتحام العاصمة، عبر إيهامهم بأنهم الورثة الطبيعيون للسلطة الإمامية المختطفة.. غير أنهم وأنصار صالح، ومن حسن الحظ، لم يقعوا في وزر النهب والسلب، كالذي جرى أيام الإمامة المتوكلية على عهد حميد الدين، لكنهم وقعوا في براثن أفعال مُغالبة لمنطق التاريخ والجغرافيا، واصبحوا كالمُسرْنَمين السائرين إلى مكان لا يرونه ولا يعرفونه.
الجديد الذي رشح خلال الأيام القلية الماضية هو أن بعض القبائل اليمنية بوصفها مكوناً اجتماعياً مهماً، تصدَّت لمسؤولية حلحلة الأوضاع، والمُساهمة بتمهيد الطريق لتسوية ما، ومن المؤكد أنها لاقت ترحيباً عربياً خليجياً، كذلك الترحيب العاقل الذي يُذكِّرنا باتفاقية الملكيين والجمهوريين في شمال اليمن، والمبادرة الخليجية الحكيمة بعد انتفاضة 2011م.
وبهذه المناسبة أود الإشارة إلى أن المكونات القبلية اليمنية ليست بعيدة عن المكونات السياسية المعلنة، بل إنها في قلب تلك المكونات، وتمتد بأذرعها الفاعلة حتى الإنتلجنسيا السياسية والمعرفية، وهي بهذا المعنى مؤهلة للقيام بأدوار بناءة في معادلة التسويات الوطنية الحكيمة.
هذه التطورات لا تتعارض بحال من الأحوال مع مرجعيات التسوية السياسية التي اتفق عليها الجميع علناً، وعلى رؤوس الأشهاد، وفي أصل هذه التسويات المبادرة الخليجية، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني الشامل، والترتيبات الإجرائية اللاحقة على تلك النتائج، وفي القلب منها الاستفتاء على مسودة الدستور الجديد.
توطئةً للانتخابات النيابية والرئاسية، وإقامة الدولة الاتحادية اللامركزية متعددة الأقاليم، وقبل هذا وذاك تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 الذي يمنح الدولة الشرعية حق السيادة على الأرض والبحر والفضاء، ويمنع وجود ميليشيات مسلحة، أياً كان لونها وانتماؤها، ويمنح كل المنخرطين في العملية السياسية التعددية حق المشاركة.
اليوم تلوح فرصة استثنائية أمام اليمنيين، ليكونوا عند مستوى المسؤولية التاريخية، واعتقد جازماً أن مبادرة شجاعة من القيادات القديمة المُلتبسة بالحالة الراهنة سيمثل أفضل هدية يقدمونها لليمنيين ومستقبلهم، فهل يفعلون؟
نقلا عن الخليج الاماراتية