نهار الخامس والعشرين من مارس الماضي فشلت محاولة اغتيال في إزهاق روح الشيخ السلفي صالح منصور، إمام مسجد الرحمن في شبام حضرموت. لكن المحاولة مزقت جسده وتركته بين الموت والحياة في مستشفى متواضع الإمكانات. بعد خمسة أيام من تلك المحاولة التي ضربت شرقاً، في الثلاثين من الشهر نفسه، فشلت محاولة أخرى في إزهاق روح عمر دوكم، خطيب جامع العيسائي في تعز، وعلقته حتى اللحظة بين الحياة والموت. في المحاولة الأخيرة قُتل رفيق الأكحلي، أحد المصلحين الاجتماعيين المعروفين في تعز، وسادت أجواء ذعر مكتوم، وتداخل دخان القُرى، ولم يعد بمقدور المرء القول من أن يأتي الدخان.
بعد نصف عام من هزيمة الحوثيين في عدن، تحديداً في الرابع من يناير 2016، عُثر على الشيخ الجيلاني مقتولاً في حي كريتر. ومع نهاية الشهر وجدت جثة الشيخ الراوي ملقاة في حي الصولبان في المدينة نفسها. القتيلان شيخان سلفيان وهما، أيضاً، خطيبا جامعين في المدينة، ولديهما صلة بطريقة أو أخرى بالسياسة. افتتح هذان الاغتيالان سلسلة غير منتهية من التصفية الذكية لشيوخ الطبقات الفقيرة في المدينة. بقيت العملية محصورة داخل أحياء عدن، ولم تخرج عنها سوى مرة واحدة إلى ذمار، طالت شيخاً إصلاحياً مرموقاً، وأخرى إلى حضرموت. في الأيام القريبة الماضية وقعت حادثتان خارج أسوار ذلك الموت: تعز، وشبام حضرموت، في مشهد فيض للجريمة خارج مركزها.
ذكرت وسائل إعلامية محلية من عدن، في الأيام الماضية، معلومات عن مغادرة حوالي 125 خطيب / إمام مسجد مدينة عدن إلى الخارج، إلى السعودية ومصر ودول أخرى. وسائل أخرى كررت خبراً عن انتظار المصلين، في أحد جوامع عدن، لخطيب الجمعة الذي اختبأ في منزله وقرر هجران مسجده، مما دفع برجل من الناس إلى الوقوف أمام المصلين وارتجال بعض الكلمات قبل أن تقام الصلاة بلا خطبة جامعة كما تُعورف عليها.
خلال عامين، منذ يناير 2016، اغتيل عدد كبير من خطباء مدينة عدن. لا يوجد إحصاء رسمي عن حالات الاغتيال تلك، وهناك صورة كبيرة ينشرها الناشطون الاجتماعيون عليها 22 صورة صغيرة لـ 22 خطيب/إمام مسجد مضرج بالدم، على أن كل تلك الجثث ليست هي كل الجثث، والجريمة تبدو أكثر استفحالاً من أن تلتقط في صورة واحدة.
ا
لاغتيالات ليست هي كل ما يجري لمساجد عدن، فالاختطافات الغامضة طالت عدداً أكبر من الذين أخذتهم الاغتيالات. كم أن محاولات الاغتيال الفاشلة سجلت رقماً ملحوظاً، وهي وإن فشلت في إزهاق الأرواح فقد تركت ضحاياها مقعدين وعاجزين عن الكسب. مؤخراً فر من المدينة خطباء المساجد الذين لم يأت الدور عليهم، أو أخطأهم من قبل. إن عملية حسابية تقوم بجمع عدد الخطباء الفارين من المدينة، الخطباء الذين سقطوا قتلى، الخطباء الجرحى، والخطباء الذين جرى اختطافهم ستفصح عن نازلة لم يسبق أن مرت بها مدينة في التاريخ. فلم يحدث قط أن مدينة نُزع منها خطباؤها بالطريقة تلك.
ضمن حسابات "الفاعل"، وهي تبدو جريمة منظمة واحترافية فلم تختر بالمرة ضحية خاطئة، فالمشروع يقترب من نجاحه النهائي. يفيض، هاهو، على الجوار، وسيسلك طريقه إلى أماكن أخرى مقدماً تجربة نجحت في منشئها، وخلقت وضعاً يمكن استخدامه وهندسته وفقاً للحاجة، وبلا معاوقة. قبل أيام قال بن دغر، رئيس الوزراء، لصحيفة الشرق الأوسط أنه يخشى العودة إلى عدن، واتهم المطالبين بعودة الرئيس إلى عدن بالخفة، وألمح إلى أن الشكل الوحيد الممكن للحياة في تلك المدينة هو الحروب والمواجهات. قدم رئيس الحكومة تلك الصورة عن العاصمة البديلة بعد ثلاثة أعوام من تحريرها.
العمليتان الأخيرتان، في شبام وتعز، ربما تعنيان نجاح المشروع في عدن. النجاح هُنا سيعني أمرين: بقاء المشروع، كل ما يتعلق به، سراً، وسحق قطاع اجتماعي/ ديني معين على نحو شامل. من السابق القول إن طبقة الخطباء في عدن قد جرت تسويتها في الأرض، فلا يزال الهناك الكثير أمام ذلك المشروع لإنجازه. ففي الثامن والعشرين من مارس الماضي، قبل بضعة أيام، اختطف مسلحون يتبعون تشكيلاً أمنياً الشيخ باحويرث، أحد الدعاة الدينين المنتمين لحزب الإصلاح. في اليوم نفسه أزهق مسلحون آخرون روح الشيخ "العزي"، إمام جامع الشهداء في المنصورة. في الأيام المبكرة لمشروع "اغتيال الخطباء" كانت العمليات تحدث متباعدة، وخلال ثمانية أسابيع اغتيل ستة منهم. يوم الأربعاء الماضي تم الخلاص من خطيبين في اليوم نفسه: أحدهم إلى المعتقل، والآخر إلى المقبرة.
بعد عامين كاملين تبدو عدن مكاناً موحشاً. شيء ما اشترك فيه ضحايا الاغتيال: قربهم من السياسية. فهم ينتمون، في الغالب منهم، إلى حزب الإصلاح الاسلامي أو التيارات السلفية السياسية، تلك التي أفرزتها المنظمات الخيرية كالإحسان والحكمة. السلطات في عدن تهز الكتفين مع كل حادثة اغتيال، وتدفع وسائل إعلامية محسوبة عليها إلى القول إن حزب الإصلاح هو من يقف وراء تلك الاغتيالات. أي: يقوم باغتيال أبرز كوادره الاجتماعية والدينية، ويتخلص من آخر أصدقائه في المدينة. في عدن لم يعُد ممكناً رصد التناقضات، فلا يوجد شيء آخر غيرها. وفي عدن يمكنك قول الشيء ونقيضه، فلم يعد هناك من أحد يعرف إلى أين هي المدينة ذاهبة. تحت سماء زرقاء تذهب عدن إلى الهاوية وهي تردد الأناشيد.
إذا كان لديك مال ومشروع وأدوات عمل فإنك ستجد العُمال. بإمكانك، إذن، أن تضرب بالطريقة نفسها في شبام وتعز، وقريباً في مأرب وصنعاء فيما إذا تأكدت أنه لم يعد في عدن الشيء الكثير لإنجازه. تستطيع أن تطهر الجمهورية اليمنية كلها من خطباء المساجد المعتدلين لتصعد فئة جديدة تقدم ولاءها غير المشروط، فئة ستأتي إليك بالمجتمع بالطريقة التي تريدها أنت. في نهاية الأمر يكفي أن تنشر الفقر في مدينة لتخلق فيها ما تشاء من المجرمين، ثم تمنحهم الزي الذي تريده.
قبل ثمانية أعوام قرأت اسم "عمر دوكم" لأول مرة في صحيفة "الثقافية"، وكنتُ عائداً للتو من القاهرة بعد رحلة دراسية طويلة. ورد الاسم ضمن تقرير أعدته الصحيفة عن الجيل الجديد من الإصلاحيين، المثقفين الإسلاميين الأكثر تنويراً، وعن لغة جديدة تصعد إلى المنابر لأول مرة. أدرجت في التقرير صورة لعمر دوكم وهو ممسك بصحيفة الثقافية، وكان قد كتب اسمه على واجهتها بخط يده. دوكم ليس مثقفاً وخطيباً وحسب، بل كاتب أيضاً. وهو يعلم الناس الخير والإيمان في أكبر جوامع مدينة تعِز. البداية من هناك، إذن: من أكبر جامع في المدينة، وأبرز الخطباء. بعد ذلك ستهون الجرائم الصغيرة، فلن يكترث أحد فيما لو شقت رصاصة جبهة خطيب في حي شعبي فيما بعد. إضافة إلى ذلك، وهذا أمر لا يمكن إغفاله، تأتي العملية تلك ضمن الميكانيزم نفسه الذي يعمل في عدن منذ عامين: حرمان المجال الديني/ الدعوي من الرجال المعتدلين، وترك أماكنهم فارغة ليصعد إليها مع الأيام آخرون مستعدون لمنح الولاء غير المشروط حين يُطلب منهم ذلك. الولاء غير المشروط هي المعادلة التي تحرك كل شيء في أراضي العربية السعيدة، غير المشروط، غير المشروط.
لا بد من التوقف هنا لملاحظة أمر ما: إن عشرات الجوامع التي خسرت خطباءها في عدن حصلت على خطباء جدد. ورغم كل ما يجري في المدينة، حيث الموت الطائش، فلم تقع حادثة اغتيال واحدة لخطيب بديل حتى الساعة. تبدو حياة "البدلاء" أكثر استقراراً، وكذلك حركتهم. لا أريد أن أشير إلى شيء بعينه سوى الملاحظة نفسها، وقد تبدو ملاحظة عديمة القيمة بالنسبة لآخرين.
مرت اليمن بتجربة مماثلة من قبل. فخلال عامين ونصف خسر الحزب الاشتراكي ما يزيد عن 150 من كوادره. بدأت حوادث الاغتيال في العاصمة، ثم غطت مناطق واسعة في الجمهورية اليمنية بعد أن استقرت الجريمة كفعل غير قابل للكشف. دائماً كانت هُناك أصبع مرفوعة تشير صامتة إلى الفاعل، وكان الفاعل يخرج في الجنازات ويسارع إلى الإدانة. انتهت تلك الجريمة المنظمة بحرب أهلية وحشية في العام 1994، وستؤسس تلك الحرب لوضع يمني هش، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، مرشح على مر الأيام للانزلاق إلى سلسلة حروب أهلية غير منتهية. مما جعل تلك الحرب ممكنة، ضمن عوامل كثيرة، هو فراغ الساحة من شريحة كبيرة من المثقفين بعد أن صاروا قتلى.
هاهي عدن تُساق إلى الهاوية، وفي طريقها تردد الأناشيد أو يطلب منها أن تفعل ذلك. وبينما يأتي نور باهت من الصحراء، من مأرب، فإن عدن التي تنام على فوهة بركة منذ الأزل تفيض ناراً سوداء.
* نقلا عن حائط الكاتب في فيسبوك