كنت ما أزال بالزي المدرسي، وبشعر أجعث مترع بغبار ساحة المدرسة الأهلية عندما أخذني والدي لأرافقه في عزومة غداء في بيت أحد أصدقاءه. لم أكن سعيداً فلطالما كانت هذه العزائم مملة بالنسبة لطفل في التاسعة تقريباً عاد للتو من المدرسة. قال والدي: سنمر على عمك عمر أولاً ونأخذه معنا من الفندق. أومأت برأسي موافقاً كما لو كان يستشيرني في الأمر.
في ساحة فندق "دار الحمد" كنتُ في السيارة أتصفح بملل عدداً قديماً من مجلة ماجد وجدتها في جيب كرسي السائق من الخلف عندما رجع أبي برفقة عمي "عمر الجاوي". كنت قد عرفته من قبل، في بيتنا وفي بيت عمي أحمد. قبل أن تنطلق السيارة كان قد رحبَّ بي كعادته:
- أهلاً "بهمدان بن زيد"... كيف حالك؟
- الحمد لله
- كيف الدراسة؟
- تمام..
حوار متبع وتقليدي مع الكبار كنت قد تعودت عليه... انطلقت السيارة؛ لكنه أصر على الحديث معي أكثر هذه المرة:
- ماذا تقرأ؟
- مجلة ماجد.
- وماذا درستم اليوم؟
حينها توقفت لوهلة... لم أكن متعوداً على هذا النمط من الأسئلة، ولم يكن يعجبني عموماً:
- رياضيات... علوم... دين... كل شيء...
- أيش درسوك اليوم بالدين؟
لا أعرف لماذا أحسست أنه يعاتب كل مدرسي التربية الإسلامية في العالم وهو ينطق "درسوك"... ابتسمت لهذا الخاطر قبل أن أجيب:
- سورة عبسَ وتولى...
- سورة ممتازة... هل تعلم لماذا عاتب الله النبي محمد ولامه؟
- لا أعرف... بل لا أعرف أنه لامه حقاً...؟
- لم يشرحوا لك معنى الآيات؟
- ليس بعد... اليوم كان تحفيظ بس...
حينها بدأ يحكي لي قصة الرجل الأعمى الذي ذهب للرسول فاعرض عنه بغضب فعاتبه الله... حكاها بأسلوب سهل وممتع. كان والدي يتداخل معه بالحديث ولأول مرة شعرت أن القصة تعجبهم فقد استمروا يتحدثون عنها كثيراً، عن سواسية البشر، عن احترام الآخرين مهما كانت الظروف، وعن أشياء كثيرة لم أعد استوعبها في حينه.
ظلوا يتحدثون عن الأعمى والرسول حتى وصلنا إلى بيت صديق والدي، حيث استقبلتهم وجوه كثيرة بالترحاب ودخلوا في حديث آخر، لكن القصة ظلت معششة في رأسي طوال الغداء.
ومن ذلك الوقت ارتبطت قصة "عبس وتولى" بذكرى ذلك اليوم الذي تلقيت فيه درساً مباشراً من "عمر الجاوي"... المناضل والمفكر والإنسان الكبير، الذي يعد أحد قلائل الرواد الذين شكلوا بصمة الحداثة الوطنية اليمنية في أرقى صورها.
رحمه الله.
*نقلا عن صفحة الكانب