الانفعالات المهدورة
الثلاثاء, 19 ديسمبر, 2017 - 04:23 مساءً

الذين ذرفوا الدموع على رحيل صالح ثاروا بعد بضعة أيام لأجل المسجد الأقصى. خلق صالح حمام دم استمر يتدفق في بلده ما يقرب من أربعين عاماً. تبدو الحياة البشرية أقل قيمة بكثير من قائمة المقدسات، وذلك ما جعل الكثيرين يذرفون الدموع في جنازة صالح، حد وضعه في درجة شهيد.
 
في العام ٢٠١٤ تظاهر سلفيو لبنان، في طرابلس على وجه التحديد، ضد نظام الأسد بعد أن بلغهم أن مدفعيته قصفت منارة مسجد في واحدة من المدن السورية. هدد السلفيون، آنذاك، بمواجهته "وقد بلغ البغي به ذلك المبلغ". مع نهاية العام ٢٠١٧ تقول المعلومات القادمة من سوريا إن ضحايا نظام الأسد تجاوزوا المليون قتيلاً. لم يعد هذا الرقم الوحشي قادراً على تحريك شارع أو اثنين في دولة مسلمة.
 
في خاتمة المشهد بدت الحياة البشرية أقل جلالاً ورهبة من منارة. يعلم المسلمون، والعرب قبل ذلك، نصوصاً دينية حاسمة تضع الحياة البشرية قبل المنشآت المادية الدينية، لكنهم لا يكترثون لذلك. فعبر فصول متوالدة من التاريخ كان الحاكم يهدر الحياة ويعنى بالمقدسات، وكان مؤلفو الكتب يخصصون فصولاً في مديح ما يقوم به الجبابرة، مهدرو الحياة، من رعاية للمقدسات.
 
إن مصادرة الديموقراطية وإرادة الشعب في مصر لهي أكثر خطراً، بالنسبة لضمير الناس على المدى الطويل، من نقل السفارة الأميركية إلى القدس. فالديكتاتور الذي يزور الانتخابات هو فاعل تاريخي يفتح الباب، مستقبلاً، لكل الشرور على شعبه.
 
تفضي متتاليات الفساد والفشل وانعدام الرقابة وتقويض الثقة إلى إهدار جهد الأمة وصحتها النفسية مع مرور الزمن. في آخر المطاف يكون ملايين الجوعى والمشردين هم النتيجة الطبيعية لتزوير الانتخابات، وتجريف السياسة. اختطاف حريات الناس، تزييف إرادتهم، وإجبارهم على شكل ما للحياة عن طريق نشر الهلع والألم هي إجراءات أكثر خطورة من تدمير قرية من المقدسات.
 
ترك التاريخ عظات وعبراً وكرر نفسه كثيراً، لكن الشعوب التي تعلمت منه ليست كثيرة. لا تزال الحرية، كحياة وفكرة، غريبة على العالم الإسلامي. هي، في واقع الأمر، ليست جزءاً أصيلاً من تاريخ العالم المسلم. الحرية، كما نعرفها الآن، هي واحدة من ملامح الحضارة المعاصرة، وبذا فهي لم تكن جزءاً من تاريخ أي أمة على الأرض. ولا توجد أمة بمقدورها الادعاء أنها كانت شعباً حراَ قبل مائتي عام. لكن الأديان تمثل ضميراً مستقلاً عابراً للأزمنة.
 
تتعايش الشعوب البسيطة مع ما يمس حياتها وحريتها وطعامها، لكنها تصبح متوحشة حين يتعلق الأمر بعقيدتها. لا يسري مثل هذا التعميم على كل شعوب العالم. فهناك شعوب استطاعت، مع الأيام، أن تزيح فكرة الإله إلى الأطراف مستبدلة إياها بالمنظوماتية بكل صرامتها وشموليتها. ففي العالم الأول لم يعد الإله هو القضية المركزية بل حياة الفرد ومصالحه.
 
لا يدرك "ترمب" هذا البعد الحرج بين الثقافتين. فالعربي يذرف الدموع على قبر السفاح صالح، متجاهلاً كل جرائمه. لكنه، أي العربي، لا يبدي أي قدر من التسامح إزاء المسائل المتعلقة بعقائده. ربما كان الأمر متعلقاً، بصورة ما، ببحث العربي المعاصر عن أمنه الشخصي والجماعي. ففي الحياة المفككة تلك تبدو فكرة الإله هي الوحيدة القادرة على منحه الأمن، لا الشرطة ولا القوانين ولا أنظمة العدالة. كل ذلك هش وزائف، عدا الإله.
 
لدى شعوب أخرى، متقدمة بطبيعة الحال، تبدو الشرطة أكثر احتمالاً من الإله، ويمكن المراهنة على عدالة جهاز القضاء على نحو أسرع من انتظار تدخل الإله. عن طريق التجربة والزمن تشكلت ميولات نفسية وتفضيلات انفعالية جماعية. فالڤاتيكان تبدو في أكثر حالاتها شبيهة بأنشودة شعبية تثير المشاعر، لا أكثر. ولم يعد ممكناً الجزم أن الڤاتيكان بمقدورها إشعال حرب ما. فقد قال أكثر من ٩٥٪ من الشباب تحت سن خمسة وعشرين عاماً، في استفتاء أميركي قبل عامين، إنهم يعتقدون أن فكرة الإله ليست ضرورية في حياتهم. في حين حصلت تشكيلات القوى الإسلامية المصرية، مجتمعة، في برلمان ٢٠١٢ على ما يقرب من ٨٦٪ من أصوات الناخبين. كان الخطاب الإسلامي آنذاك يزج بالسماء في كل الدعاية الانتخابية. أما الانتخابات نفسها فأطلق عليها أشهر دعاة الدين في مصر اسم "غزوة الصناديق". بالنتيجة فإن المنتصر في الانتخابات كان هو الإسلام، مقابل هزيمة مرة ألحقت بأولئك الذين شكلوا خطراً عليه!
 
يزج السيسي بعشرات الآلاف في السجون خارج نظام العدالة. وبالموازاة يعمل على إنعاش الرأسمالية المتوحشة، خالقاً جمهورية خوف على كل الأصعدة. لا رقابة على السيسي سوى ما يفرضه هو على نفسه من خلال تمظهر ديني مبتذل. يبدو ذلك مقنعاً بالنسبة لقطاع كبير من شعبه. بين الفينة والأخرى يمسك السيسي بميكرفون ويحلف. يحلف الرجل كثيراً، وذلك هو الشكل الوحيد لفكرة "الحكم الرشيد" الذي يعرضه على شعبه. فهو، وإن كان ديكتاتوراً، لكنه مؤمن. وإن كان لا يأبه للديموقراطية فهو، فوق كل ذلك، يراعي "ربنا".
 
الإله في موضع الديموقراطية، تلك هي حيلة السيسي. وللأنظمة الكاليبتوكراسية طريقتها الخاصة في هندسة نوايا الإله ومُراده. فيما لو أغلق السيسي مسجداً فإن قواعد الاشتباك مع شعبه ستتغير. في تلك الحالة لن يتسامح معه أحد. يعرف مرشد الإخوان، وهو في سجنه، أن السيسي خلق جمهورية خوف تمثل مخزناً لكل أنواع الشرور. لكن انفعاله بلغ أقاصيه عند سماعه خبر نقل السفارة الأميركية إلى القدس. كانت تلك هي الفاجعة التي تستأهل كل ضروب التوجع، كما قال في كلمته الحماسية.
 
قطعت تونس، على سبيل المثال، شوطاً في عملية التحديث الاجتماعية. لكن النتيجة كانت باهظة. فمع كل خطوة تنجزها تونس في اتجاه المستقبل يحدث ارتداد عنيف إلى الماضي. البلدة الصغيرة تونس شكلت العمود الفقري لأخطر نظام إرهاب ديني في التاريخي "الدولة الإسلامية". حد أن "أبو مصعب الزرقاوي"، كما نقل عنه، تمنى لو أن تونس كانت محاذية للعراق. تحاول فكرة الحياة في تونس أن تجد لها مكاناً لائقاً، لكن رياح الماضي تضرب بقوة، محاولة التقليل من قيمة الفكرة ودفعها لأن تعود هامشية كما كانت في كل التاريخ. أي مقابل إعادة إحياء الانفعالات المقدسة، وتعظيم الأحجار والمنشآت ذات الصفة السماوية.
 
حتى تصبح الحياة البشرية وحرية الكائن لهما نفس القيمة الثقيلة التي للمقدسات فإن عملية تحديث طويلة ومعقدة لا بد وأن تسلك طريقها. إن تقويض كل مشروع للديموقراطية، كما يجري راهناً، من شأنه أن يجعل من عملية التحديث مسألة بعيدة المنال. بما سيبقي العالم المسلم رهينة شعوره الديني مستقبلاً. ذلك هو ما نقَل معركة الثورة في سوريا من صراع لأجل الحرية والعدالة إلى معركة لأجل الخلافة خلال وقت قصير. وهو ما سينقل الحوثيين من حركة تمرد انقلابية، معادية لمشاريع الجمهورية والحكم الرشيد، إلى روافض أشرار.
 
يحتاج عالمنا المسلم إلى الحرية قبل كل شيء، وأي شيء. اعتقد عبد الناصر أن الحياة النيابية بالإمكان الاستعاضة عنها بعملية تنمية مُسيطر عليها مركزياً. وكنتيجة للتقويض المبكر للحياة البرلمانية فقد حصلنا بعد ثلثي قرن من الزمان على بلد شديد الفقر، تضرب الديكتاتورية في كل أرجائه. فبعد أطوار معقدة من التاريخ والتاريخ المضاد كانت الديكتاتورية والفقر هما الرابحين الوحيدين.
 
سيعيش العالم المسلم لزمن رهينة مشاعره الدينية، فهي الشيء الوحيد الذي يخصه ويملكه. وهي المقياس الوحيد الذي يطمئن إلى سلامته. وكما هو متوقع فإن هذه الظاهرة، ذات العمق التاريخي، ستنجب من وقت لآخر حالات شبيهة ب"تنظيم الدولة".
 
حالياً تجري بوادر تحديث اجتماعي في السعودية، ضمن رؤية ولي العهد الشاب. لكن المجتمع الذي يذهب إلى المستقبل معتقداً أن التحديث الاجتماعي سيغني كلياً عن التحديث السياسي سرعان ما سيقع في اضطراب. ذلك أن التحديث الاجتماعي يصبو، في نهاية المطاف، لأن يعبر عن نفسه سياسياً. بهذا الميكانيزم كأن النظام السعودي الراهن يخلق أسباب مواجهة مؤجلة مع شعبه ستجري يوماً ما. فالآباء المؤسسون في السعودية منحوا السلفية الدينية الحق في أن تضبط إيقاع كل شيء وفقاً لرؤيتها للدين والحياة. ولم يلبثوا أن اصطدموا بها في حربين ضاريتين "١٩٢٨، ١٩٧٩"، عندما تداخل مجال فعلها وسلطتها مع المجال السياسي وحقل فعل الحاكم.
 
ما من ضامن للاستقرار، على المدى الطويل، سوى إطلاق حرية عامة يكون فيها القانون ضابط إيقاعها، وتحرسها أجهزة عدل مستقلة وكفؤة. اللعبة المجزأة، على الطريقة العربية، تعمل فقط على ترحيل المعارك إلى المستقبل، ثم يحدث أن تكون المواجهة من الضراوة بمكان حد إنها تقوض بلداناً بأكملها، كما جرى في سوريا والعراق وليبيا.
 

التعليقات