كلمة قومية توصف عند فقهاء العربية بأنها مصدر صناعي. فكل اسم تضاف إلى نهايته ياء مشددة وتاء مربوطة فهو مصدر صناعي. وهذه الإضافة تشبه إضافة ism إلى نهاية الاسم في الانجليزية للدلالة على معنى النظرية. فالقومية إذن هي مفهوم يكاد ينطوي على نظرية. والخطوة الأولى في شرح أي نظرية هو تأصيل المصطلح وتتبع دلالاته التاريخية.
وهو ما يمكن أن نصفه مجازا بجيولوجيا المعاني. فالكلمة الواحدة لها طبقات تاريخية من المعاني مثل طبقات التربة.
خذ مثلا كلمة "أدب" ، وتتبع دلالاتها التاريخية ستجد عجباً: في عصر ما قبل الإسلام كانت الكلمة تشير إلى المأدبة (العزومة). وفي العصر النبوي ربما استخدمت بمعى أخلاقي تربوي (أدبني ربي)، وفي العصر العباسي وجدناها تستخدم بدلالة تعليمية (مؤدب أولاد الخليفة الذي يثقفهم ويهذب أخلاقهم وعقولهم) واستمرت كذلك لفترة من عصور الانحطاط قبل أن تطلق للدلالة على مهنة الكتابة في مختلف المعارف إن لم يكن كلها. وأخيرا استقرت الكلمة في القرن العشرين للدلالة على جنس محدد من الكتابة له خصائصه المعروفة.
وفقهاء اللغة يقولون إن معاني الألفاظ تتحول وتتطور باستمرار، ولا تقر عند المعنى الأولي لها. ويقولون أيضاً إن المعنى الأولي للفظة لا بد أنه كان حسيا لا مجازياً. لأن صانع اللغة الأول يبدأ بتسمية المحسوسات لا المجردات. مثلما يبدأ الطفل بالتعرف على العالم بواسطة حواسة، وتحديدا حاسة اللسان. فكلمة "عين" مثلاً، لها أكثر من 15 معنى في اللسان العربي. منها العين الباصرة، والجاسوس، وعين الماء، ومفرد أعيان، وعيون القلب عند نجاة الصغيرة، وغيرها. وعندما نرغب في التعرف على المعنى الأولي لها سنبدأ في البحث عن المعنى الحسي (عين الإنسان، عين الماء، إلخ). مع الانتباه إلى أنه مهما اختلفت معاني اللفظة ودلالاتها سيظل بينها معنى عام مشترك هو ذلك المعنى الذي حملته معها من التجربة الأولى.
فكلمة قومية "مثلا" جاءت من الجذر الثلاثي "ق، و، م". وهذا الجذر في نظري يحمل في كل معانيه ودلالاته المستخدمة معنى عاما وثابتا هو "الاستقامة". وكلمة "قام" التي بمعنى انتصب واستقام هي نفسها كلمة "قوم" بعد إجراء التعديل الصرفي اللازم لها. ويبدو أن صانع اللغة قد أراد تضمين معنى الاستقامة في كلمة قوم عندما أشار بها إلى المجموعة البشرية المحددة. وكأنه استدعى معنى أخلاقياً في وظيفة الجماعة، هو تقويم اعوجاجها بنفسها. أو تقويم اعوجاج أفرادها فلا تسمح لهم بالخروج على قانونها. ولعل هذه الدلالة تحديدا هي التي تميز الكلمة عن شبيهاتها في المعجم، مثل "أمة" و"شعب". فكلمة أمة لا تعني سوى جماعة، سواء أكانت تنتمي إلى عرقية واحدة أو إلى فسيفساء عرقية. ويناسب الجماعة (الأمة) أن يكون أفرادها أحرارا لا قانون يلزمهم سوى القانون الذي يخضعون له بإرادتهم. على عكس القوم فإنهم يخضعون لقانون الجماعة بمجرد ميلادهم فيها. أما كلمة شعب فهي تحمل معنى بيلوجيا خالصاً. أي الذرية والسلالة التي تتفرع وتتشعب من أصل واحد.
وبناء على هذا يمكننا القول إن لكل كلمة من الكلمات الثلاث الماضية دلالة سياسية مختلفة. فكلمة قوم توحي بجماعة سياسية - أو مجتمع سياسي - يخضع أفراده لسلطة قهرية لا يختارونها بأنفسهم، على شاكلة القبيلة والدولة البوليسية المستبدة. وكلمة شعب توحي بجماعة سلالية تنتمي إلى عرق واحد، كما هو حال المجتمع الإسرائيلي والهاشمية السياسية. أما كلمة "أمة" فتوحي بجماعة سياسية ذات تنوع عرقي ووحدة سياسية وثقافية. وأظن أن الخلاف في اليمن هو بين من يريد أن يجعل السلطة في يد "الأمة" ومن يريد أن يجعلها في يد "الشعب"!. أما مفهوم القومية اليمنية فهو مولود جديد نسبيا لم تتحدد معالمه بعد. أعني من حيث الدلالة السياسية النظرية. وهو إما أن يحمل معنى عرقيا، بحيث يكون المقابل السياسي لمفهوم الشعب، وإما أن يحمل معنى ثقافيا وسياسيا يقترب نسبيا من حدود مفهوم الأمة. وهناك تفاصيل أخرى وأسئلة كثيرة تحتاج إلى نقاش لا أجد لها وقتا الآن.
نقلا من حائط الكاتب