تحضر الكوميديا خلفية ساخرة للتطورات السياسية والعسكرية في اليمن بين جماعة الحوثي وعلي عبدالله صالح، إذ تؤكد هذه التطورات أن التحالف الذي أسس لإخضاع اليمنيين يبدو اليوم أوهى من بيت العنكبوت، فالتناقضات البينية بين الحليفين التي تجاوزاها مؤقتاً من أجل حربهما ضد "العدو الخارجي"، كما يقولون، أصبحت مسمارا صدئا في خاصرة تحالفهما، إلا أن المثير للسخرية أن تآكل تحالف سلطة الانقلاب أخذ شكله النهائي في الذكرى الثالثة لإسقاطهما صنعاء ومؤسسات الدولة اليمنية، في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، فضلاً عن تحول مدينة صنعاء من حاضرةٍ لتحالف الانقلابيين إلى سبب سيؤدي إلى انفراطه، في حين تستعيد المدينة المرهقة، والتي لم تتعاف من الرعب القديم، ذاكرة الأمس بمزاج أكثر سوداوية.
لم تعد مدينة صنعاء التي سيطر عليها الحليفان بسهولة قبل ثلاثة أعوام، وأدارا شؤونها السياسية والأمنية، منطقة توافق كما كان سابقاً، وورقةً سياسيةً لتفاوض مع السلطة الشرعية وحلفائها، وإنما أصبحت العاصمة صنعاء عبئا يثقل تحالفها السياسي، إذ بدا نزاعهما للسيطرة على العاصمة جلياً، ومرشحاً للتصعيد لحسم واحدية السلطة في صنعاء، حيث تعدّت الخلافات بين الحليفين والتنظيمات العسكرية التابعة لهما الشحن السياسي والشعبي الذي ترتب على احتقان أنصارهما بعد احتفالية صالح بذكرى تأسيس حزبه في نهاية أغسطس/ آب الماضي، فالمناوشات المسلحة بين أنصار الحليفين، وسقوط قتلى بينهما، كانت تجلياً لتعدد السلطات السياسية التي تدير صنعاء، وتنافس الحليفين في إدارة الجانب الأمني في العاصمة، كما كشفت تلك المواجهات المسلحة أن تحالف سلطة الانقلابيين كان مظلةً مؤقتةً لإدارة حربهما في المناطق اليمنية الأخرى، ولا تتجاوزها إلى إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتهما، وبالتالي، كانت تلك الصدامات فرصةً ملائمة للحليفين، لإعادة انتشارهما العسكري والأمني في العاصمة، بما في ذلك محاولة إحكام قبضتهما على نقاط التفتيش الرئيسية، وتصدر الواجهة السياسية والشعبية في العاصمة.
فشلت الجهود السياسية التي بذلتها شخصياتٌ في هرم سلطة الانقلاب، في إعادة الأوضاع السياسية بين الحليفين إلى ما قبل 24 أغسطس، فعلى الرغم من عقد اجتماعات تهدئةٍ بين القيادات العليا لحزب المؤتمر الشعبي والمجلس السياسي، بما فيها عقد لقاء مع الإعلاميين التابعين لهما، لتبني خطاب سياسي واحد، ووقف المهاترات السياسية والإعلامية بين أنصارهما، إلا أن تلك اللقاءات لم تقدّم معالجاتٍ سياسية لنقاط الخلاف الرئيسية بين الحليفين، فضلاً عن ترميم تدهور الثقة بينهما، إذ استمر التصعيد السياسي بين الحليفين، واعتقال جماعة الحوثي صحافيين محسوبين على حزب صالح، وكذلك إزاحة أنصار صالح من مجلس القضاء الأعلى، وهو ما دفع "المؤتمر الشعبي" إلى الاحتجاج على تلك التعيينات، في حين حاولت جماعة الحوثي امتصاص نقمة حليفه ظاهرياً فقط، وهو ما يدلّ على أن الحليفين لن يستطيعا تجسير الهوة بينهما، ما يجعل من انتظارهما اللحظة المواتية لفرض سلطة الأمر الواقع على حليفه، والتي تبدأ من صنعاء أمراً واقعاً.
تحتل مدينة صنعاء أهميةً مفصليةً لتحالف سلطة الانقلاب، وكذلك مستقبله، باعتبارها مركز السلطة، فضلاً عن أهميتها في موازين القوة لدى كل حليف للمضامين السياسية والتاريخية للعاصمة، وربما بدا صالح أكثر وضوحاً في علاقته بصنعاء التي يعدّها مصدر ثقله السياسي والعسكري والاقتصادي والشعبي، وهو ما رشح من مضامين بيانه السياسي في أغسطس/ آب الماضي، وكان رسالة سياسية موجهة لحليفه باستحالة تفجير الصراع في صنعاء، ملوّحاً لجماعة الحوثي: "نحن هنا"، وهو أول خطابٍ لصالح يزجّ صنعاء في معادلة صراعه مع حليفه. على العكس من صالح، لم تستثنِ جماعة الحوثي صنعاء بخصوصية في خارطة المدن الخاضعة لسلطتها، إلا أن خلافها مع صالح أخيرا جعلها تلقي بثقلها الأمني في العاصمة، لمنازعة صالح سلطتها، ومن ثم لم يكن مصير صنعاء السياسي مرهونا بانتصارات السلطة الشرعية والقوى الإقليمية المتحالفة معها أو بهزائمها، وإنما بمن سيحسم الصراع من الحليفين ويحكم صنعاء.
يقتضي تشريح الخارطة السياسية والعسكرية والأمنية لمدينة صنعاء في الوقت الراهن، قبل إدراك موازين القوى الفعلية للحليفين، تتبع مسارات ثلاثة أعوام من التغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية في صنعاء التي صاحبت عملية انتقالها من عاصمة شرعية لسلطة المرحلة الانتقالية إلى عاصمة لشرعية القوة "سلطة الأمر الواقع"، وأثر هذه المتغيرات في تغيير معادلة القوة لصالح من جهة، وجماعة الحوثي من جهة أخرى.
صنعاء مدينة حكمتها طبيعة السلطة الغالبة عليها، خضعت لتحولات عاصفة في غضون ثلاثة أعوام، وبدت المرحلة الأولى التي امتدت سبعة أشهر منذ وقوع الانقلاب إلى بدء التدخل العسكري للتحالف العربي في اليمن، في نهاية مارس/ آذار 2015، العصر الذهبي لسلطة جماعة الحوثي، حيث تصدّرت الجماعة والتكوينات العسكرية التابعة لها الواجهة السياسية في صنعاء، إذ مكّنت عناصرها في مراكز السلطة في العاصمة، في حين ظهر صالح الذي سهل، بمعية قواته، إسقاط مؤسسات الدولة في يد جماعة الحوثي متفرّجاً لا أكثر، إلا أنه لا يمكن القول إن صالح والجهاز الأمني والإداري والعسكري والسياسي لحزبه لم يحكم كسلطة ظل لجماعة الحوثي في صنعاء في المرحلة المبكرة من الانقلاب، فقد أدارت جماعة الحوثي صنعاء برجالات صالح، لكن سبعة أشهر من حكم جماعة الحوثي لصنعاء ربما خلخلت موازين القوى التي كانت محسومةً سابقا لصالح صالح، إذ اخترقت جماعة الحوثي الجيش التابع لصالح عبر تعيين قياداتٍ عسكرية تابعة لها، كما عملت على إحلال عناصر "حوثية" في مؤسسات الدولة، وخصوصا المؤسسات الاقتصادية، كشركة النفط التي أسهمت في تعاظم نفوذ جماعة الحوثي، فضلاً عن تعميق حضورها السياسي والطائفي في مناطق الطوق القبلي لصنعاء التي كانت شبه مغلقة على صالح.
بدأت المرحلة الثانية التي دخلت فيها صنعاء، بإعلان طرفي الانقلاب تحالفهما السياسي إلى العلن، وتشكيل مجلس سياسي بين الحليفين لإدارة المناطق تحت سيطرتهما، بما فيها صنعاء، وأصبحت العاصمة منطقة توافقية تخضع لسلطتهما، ولم تصاحب تلك المرحلة تجاذباتٌ سياسيةٌ بين الحليفين في إدارة العاصمة، فيما تركّزت جهودهما السياسية والعسكرية على استمرار القتال في مناطق المواجهات الأخرى، إلا أن تشكيل حكومة الانقلاب كان تحولاً في علاقة الحليفين، كشف عن عمق الخلاف بينهما، وفاقم نقل البنك المركزي من مدينة صنعاء إلى مدينة عدن من صراعهما على الإيرادات، خصوصا مع انفراد جماعة الحوثي بموارد مدينة الحديدة.
وضعت مضامين يوم 24 أغسطس بداية مرحلة جديدة لتحالف سلطة الانقلاب، حيث فجر صالح، في خطابه السياسي حينها، نقاط الخلاف الجوهرية بين الحليفين إلى العلن، بما في ذلك تدشين ملامح المرحلة المقبلة في التحالف، إذ أشار صالح إلى تعدّد السلطات السياسية التي تدير صنعاء، بما فيها مؤسسات الدولة والمتمثلة باللجان الشعبية التي يتزعمها محمد الحوثي، التي لازالت تمارس سلطتها الفعلية والعليا على مؤسسات الدولة، على الرغم من قرار حلها بمقتضى تشكيل المجلس السياسي، فضلاً عن عرقلتها أعمال حكومة الانقلاب، فيما تمحورت نقطة الخلاف الثانية بين الحليفين في إدارة ملف الجبهات، واتهامات الطرفين لبعضهما في التقاعس عن إمداد الجبهات بالمال و"الموارد البشرية".
لا تظهر الملامح العامة للمرحلة الجديدة لتحالف سلطة الانقلاب، بحيث يمكن استقراء مساراتها والمآلات التي قد تفضي إليها، فعدا عن افتراقٍ حقيقي بين الحليفين، وتحول صنعاء ساحة للخلاف السياسي والعسكري بينهما، فإنه لا يمكن التكهن بمن سيبدأ الخطوة الأولى لحسم السلطة فيها، فقد بدا صالح حريصاً على إظهار ضعفه أمام حليفه، وكذلك أمام أعضاء حزبه وأنصاره، وخصومه في الداخل اليمني والخارج، إذ لم يتخذ أي إجراء عسكري ردا على تصعيد جماعة الحوثي في صنعاء، ما جعل محللين سياسيين كثيرين يرون أن معركة صنعاء، في حال اندلاعها، ستحسم لصالح جماعة الحوثي، إلا أن من التسطيح والخفة الحكم على نفاد خيارات صالح أمام حليفه، فضلاً عن تجاهل سطوة صالح، رئيسا حكم ثلاثة عقود، وامتلاكه سلطة الجيش التابع له، وكذلك حاضنته القبلية التي يستطيع من خلالها تجريد جماعة الحوثي من قوتها متى ما أراد، وبالتالي إخضاع صنعاء لسلطته المطلقة، أو على الأقل تحجيم جماعة الحوثي، بمقتضى قوتها الفعلية في الساحة اليمنية.
ربما من المبكر توقيت بدء مارثون السباق الذي سيقطعه الحليفان في حسم رأس السلطة في صنعاء، لكن الجلي هنا أن مدينة صنعاء التي "حوت كل فن" كما يقول اليمنيون، وظلت منطقة آمنة نسبياً بالنسبة للهاربين من جحيم الحرب والمواجهات في مدنهم، يعيش أهاليها، في هذه الآونة، خوفا من حماقة سلطة الانقلاب التي قوّضت صنعاء واليمن قبل ثلاثة أعوام، ودشنت حربها ضد اليمنيين من إعادتها الكرة هذه المرة في صنعاء، في حين لسان حال الأهالي المغلوبين على أمرهم يردّد بخوف: حمى الله صنعاء.
العربي الجديد