بينما أحدق في منزلنا الذي تركته خلفي وعلى عتبة بابه ساق مبتورة، تلك الساق التي جعلت من أخي معاقًا، وهو يتمسك بالبقاء في ظل شعور متنامي بالبقاء في هذه الدار، إذ نظر نظرة في السماء وجال ببصره نحو الأفق ليرتد بشعور التحدي رغبة في التعافي من هذه المحنة.
إنها الإرادة الحرة والقيم الثائرة ضد مسالك الشتات والحرمان التي يعيشها الأحرار. تلك إشارة إلى ما لم يدركه أخي أن الأرض باتت مثقلة بالألغام، ومن جهة السماء يرسل الأوباش عصارة حقدهم بالرصاص والقذائف. إن هذا الواقع الذي يعيشه أخي وأقرانه على نحو ما نضع به دالة الزمن ومتوالية المكان، ونقصد أن الموت لم ينفك في مطاردة الشباب وما لبث السيئون يضمرون الشر لكل حر أبي.
حملني الموقف المؤثر ومشهد الرجل المبتورة على إنقاذ أخي بوجع يلفني، وألم يتطاول في صدري، ولم تغب عني تلك الثنائية المتحصلة من لوازم الواقع وإفرازاته: الحب والحرمان، الهوية والشتات، الأمل والألم، السعادة والشقاء. ثنائيات ما برحت تلازمني وأنا أجري في حركة لاهثة لإنقاذ الطفل على الجهة الأخرى.
حملت أخي وأنقذت الطفل الجريح وغمرات الأسى تجرني من داخلي وقساوة الأحداث تلقي بظلالها على تلك المسكينة التي تخبط خبط عشواء هلعًا على ابنها المفقود وابنتها تضع قدمًا مكان أخرى من آثار البحث في ركض الأم، وفي زاوية أخرى نسمع حشرجة واختناق صوت قد هده الحزن على زوجته وأطفاله، وقوله المصحوب بحرقة يدعو ربه:: رباه ألطف بزوجتي وفلذات الأكباد.
موقف صعب، وحدث مشهود غمرني بسكرة ألم وأنا أنظر من بعيد يحملني القارب بعيدًا عن تلك الديار التي ترعرعت فيها وعشت أسعد الأيام، لم يكن سوى الشهيق والزفرات والدمع يسقي آمالنا بالعودة. ابتعد بنا القارب في رحلته الموجعة، وسفره الأليم يخوض غمار البحر الهائج المضطرب وما زلت أعيش الصدمة، إذ تمزقني المسافات، وتمتد الشواطئ بقسوة التهجير واللجوء كما أن الأمواج تتقاذفني ولا أدري حتى اللحظة أين وجهتي، كما لا أدري أين أمضي وفي أي شواطئ العالم سيرسو بنا قاربنا الصغير.
استجمعت قواي وبدأت أعيش اللحظة وأنظر في وجوه المهجرين ويلاه كم تبدو كسيرة شاحبة متألمه؛ تحدثني بلغة صامتة بلاغة الأنين الذي يتجلى في أعينهم وآلام التهجير القسري وسلخ الوطن من الوجود الآدمي. خطوت نحو زاوية من زوايا القارب انكفأت على نفسي وبدأت أسبح في واقع لو لم أعشه لقلت إنه ضرب من الخيال، لم أكن أتخيل أنه يمكن بين عشية وضحاها أن نركب البحر هائمين على وجوهنا لا ندري إلى أين ؟
نظرت إلى الوجوه وكل يحكي لمن يشاطره الرحيل قصته المأساوية، وأنا أكتب ما ينطقون ، وأحصي ما تناثر مع القذائف من الأشلاء، ومن بقي ومن نجا، قصص يطغى عليها الوجع بكل معانيه، وترسم المشقة خطوطها في البر والبحر.
شواهد تشبه ما نطقت به لسان الطفل فريد في غمرات الموت: (لا تقبروناش) بلغة الحي والعامة، أي لا تقبروني بلغة الفصحى، وهي عبارة تقول كل شيء عن الأطفال الذين تحصد أعمارهم وهم يلعبون، ثم لا تجد غصة أكثر من شعور طفل بالرحيل، وغصة أبٍ يرى ابنه يتلوى من الموت أمام عينيه، واختناق أمٍ كمدًا على ابنها الذي لم يبلغ السبع سنوات، تنذر بحصاد الأعمار من جميع الفئات العمرية والأم والطفل في صدارة هذا المشهد المرعب، إنها رغبة الطفولة في الحياة بيد أن السيئين في هذه الدنيا وأدوها بدون ذنب، وقتلت الأنفس بوحشية، تلك إذن دالة الإجرام والحرمان، ومتوالية الحياة الإنسانية التي فقدها الصغار قبل الكبار، وهكذا يتعرى الواقع يوميًا بعورات المجرمين، أطفال تحرق أجسادهم، وتمزق أشلاء، وتبتر أيديهم وأرجلهم، يتوزع الأنين على كل بيت في هذه الديار، وترسل الصرخات في كل وادٍ، وآخرون أعداد كثيرة لا تجد الأكسجين في طوارئ المستشفيات.
ولا يملك الآباء والأمهات سوى رفع الأيدي إلى السماء بقولهم: اشهد يا الله بملء فيهم، وأكبادهم تتدحرج أمام أبصارهم فلا تجد إلا البكاء بلسم الصبر وأداة الثكلى، ومورد الاحتساب. حسبنا الله ونعم الوكيل. ولم تكتمل صورة الوجع إلا حين تقابل وجوهًا شاحبة، أكلت شطرها الشمس والريح، وتلونت بلون الرصاص أجساد اللاجئين.
مشاهد مبكية كثيرة يمكنك أن تقرأها في وجوههم، أبحرنا وابتعدنا كثيرًا عن بلادنا وجدنا أنفسنا في كوكب مائي لا نجد غير البحر تحتنا والسماء فوقنا.
ترى الملامح أقرب لكونها لوحة حزن تصطف بها العيون لتروي رحلة التيه والبارود.
الشفاه هناك ورغم كل البسمات، كأنها انبعاثة الشرر من رماد لا دفء فيها ولا سكينة!
احترقت حطب المشاعر ، وتلظت النفوس بحرارة الوجع، وذهب الأمن من كل شيء، إذ غشي الحزن الوجوه، وتلونت المشاعر بلون الرماد!
لا حروف لهذه اللغة فتقرأ ولا صوت لها فيسمع. وأنى للغة أن تصور تلك الأجساد تحت الأنقاض، وأنى لها أن تقترب من المقابر، شاعت الأوجاع وفتحت الجروح، ولم تندمل بعد. إجرام لا يتوقف من صانعي الموت، وتجار البندقية، إنها تجارة السيئين في هذا الكون، تعجز الحروف عن وصفه . تلك هي حكاية الوجع الذي تقصها الأيام، وتحكيها الأمكنة، قصة القتلى والمشردين والجرحى والثكلى والموجوعين، قصة الأطفال أهداف القذائف، قصة البيوت التي تحولت إلى ركام، وتحت ركامها يرقد الموتى. بعد حين تقاذفتنا الأمواج إلى شواطئ لا نعرف لها هوية، ولا ندري في أي أرض، كما لا ندري في أي واد سحيق غدونا. ومع ذلك لم ينقبض الأمل ، فما زال ثمة شاطئ، وبقية أرض.
رأينا أنوار مدينة تبدو من بعيد صرخ الجميع ياالله تهللت وجوه النساء والأطفال وكبار السن اختلطت فرحتهم بتكبيراتهم: “لقد نجونا”.
غير أنها كانت المفاجأة، إذ وصلنا قاربان صغيران بسرعة البرق صرخ الأطفال انقذونا ولوح الكبار برايات بيضاء نحن هنا لقد وصلا إنهما خفر السواحل ينذروننا “أن توقفوا ” أخذوا يدورون حول قاربنا الصغير ليسأل قائدهم سائق القارب أين وجهتكم؟
فقال السائق : نحن لاجئون من ظلم أهلنا وحرب إخواننا فقال قائدهم : غير مسموح لكم أن تنزلوا في ديارنا، فقانون بلادنا يحرم استقبال اللاجئين، فكانت الصدمة قاسية على الجميع، إنه الموت المحقق؛ أين نذهب؟
بالكاد وصلنا إلى هذا المكان
استدار بنا السائق يمينا والإحباط يعلو الوجوه وخيبة الأمل تستبد بالكبار قبل الصغار، وفي خضم هذا الشعور المؤلم القاسي نلمح لوحة كبيرة كتب عليها بالخط العريض:(مرحبا بكم في بلادنا).
ما إن قرأها البعض حتى تحركت المجاديف بسرعة نحو تلك الدولة التي استقبلنا أهلها بحفاوة ونزلنا بها خير منزل، يؤسفني أن تكون دولة أوربية، استقبلتنا بدافع الإنسانية لا أكثر.
الإنسانية التي افتقدناها في بلادنا وبلدان شقيقة وصديقه كثيرة.
قضينا بها عامين ونصف رغم المعاملة الحسنة والأموال التي تصرفها لنا الدولة المستضيفة إلا أن الغربة قاسية والبعد عن الأوطان أشبه بموت بطيئ!
كل يوم يراودنا حلم العودة إلى الوطن الذي يأن تحت سوط الجلاد، فقررنا العودة، رتبنا أوراقنا وانطلقنا مسرعين إلى الوطن الأم حتى ندحر الظلم ونحرر أرضنا من قبضة السجان الحديدية.
ما إن اقتربنا منه حتى شممنا عبقه الطيب، نعم عدنا لنكون شموسا تطارد دياجير الظلام، وتبدد ظلمات الليل القاتم، حتى صرخ الناس مرحبا بالنور مرحبا بالنهار، مرحبا بدولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية مرحبا بالعدالة الإجتماعية.
تبدلت الأحزان إسعادًا وأنسا
والدموع قهرا بالدموع فرحا واستبشارا
مرحبا بكم في وطننا.