منذ تأسيسه في ثمانينيات القرن المنصرم، تمحورت المسارات السياسية لحزب المؤتمر الشعبي العام حول شخص علي عبدالله صالح، فالحزب الذي تشكل توليفةً سياسيةً، من مراكز النفوذ السياسية والعسكرية والاقتصادية والقبلية الموالية لصالح، ظل أداة سياسية بيده، وحدّدت تموضعات صالح شبكة التحالفات السياسية التي انخرط فيها "المؤتمر"، وكذلك سياسته الداخلية والخارجية وعلاقته مع القوى السياسية اليمنية.
وبالتالي، لا يمكن قراءة تجربة حزب المؤتمر بعيدا عن طموحات صالح؛ فعلى الرغم من مراهنة نخب يمنية على احتفالية ذكرى تأسيس حزب المؤتمر بأن تؤدي إلى تصحيح مسار الحزب، واستعادته مؤسسات الدولة من حليفه جماعة الحوثي، فإن الرسائل السياسية التي اشتملت عليها التظاهرة، وكذلك التطورات السياسية والعسكرية اللاحقة، ترجمت ما يريده صالح من حلفائه وخصومه السياسيين، إلا أن اللافت أن تلك النخب تجاهلت أن صالح وحزبه هما من مهّد الطريق لمليشيات الحوثي، من عمران وحتى إسقاطهم صنعاء قبل ثلاثة أعوام، وأن صالح يتحرك وفق شروطه، لا وفق شروط الآخرين، لكن خفة هذه النخب وحماقتها ما زالتا تحكمان تموضعاتها السياسية، فهي لا ترى غضاضة من تكرار أخطائها باستخدام صالح إزاحة الحوثي، تماما كما أزاحت حزب الإصلاح باستخدام ورقة الحوثي.
نجح صالح، الخبير في توجيه الجماهير، في اتجاهٍ يخدم أغراضه السياسية، باستثمار الحالة النفسية المحبطة ليمنيين كثيرين من استطالة أمد الحرب ومعاناتهم الاقتصادية، ليقدم نفسه ليس منقذا، إنما معارض قادم من خارج سياقات الحرب والسلطة، فالجماهير المنزوعة الإرادة في ميدان السبعين، في 24 أغسطس/ آب الماضي، لم تكن ممثلة من خلال مطالبها الذاتية بتحسين شروط معيشتها، بل كانت مطالب صالح الموجه لخيارات الجماهير المحتشدة، واستطاع من خلال تلك الحشود التلويح بقوته السياسية، الجماهيرية والعسكرية، في وجه حليفه الحوثي.
التجاذبات السياسية والتحشيد القبلي والعسكري في صنعاء بين الحليفين، وكذلك حدوث اشتباكات مسلحة بين أنصارهما أسفرت عن مقتل خالد الرضي المقرّب من صالح، واثنين من أعضاء اللجان الشعبية التابعة لجماعة الحوثي يؤكد أن مرحلة جديدة في علاقة الحليفين قد بدأت، فقد هدف صالح، من خلال حشود السبعين، إلى تغيير شروط المعادلة السياسية بين حزبه وجماعة الحوثي. كعادته، وبدهاء سياسي، أدار صالح خلافه مع حليفه على قاعدة شد الحبل لا قطعه، فيما عزّز قبضته العسكرية عبر إعادة انتشار بعض قطاعات الحرس الجمهوري في مداخل صنعاء، والمراهنة على تجريف ما تبقى من شعبية جماعة الحوثي في العاصمة، في حين طغت على أفعال حليفه العصبية وضيق الأفق، فإضافة إلى ملاحقة أعضاء في المؤتمر الشعبي العام، ومنع قياداتهم من مغادرة صنعاء، وإزاحة قيادات عسكرية من الجيش، اتسمت خطابات المحسوبين على جماعة الحوثي بالتصعيد، فيما بدا صالح متفرجاً على مشهد سقوط الجماعة، وخلافاً لإدارته الخلاف مع حليفه، فإنه بدا متناقضا في الرسائل السياسية التي وجهها إلى القوى الإقليمية المتدخلة في اليمن، وتراوحت ما بين الاستمرار في التصعيد العسكري والرغبة في السلام.
يدرك صالح أكثر من غيره أن شروط القوة على الأرض قد تصنعها الحشود الضخمة لتخويف حليفه الداخلي، لكنها لا تشكل فارقاً كبيراً في علاقته مع القوى المتدخلة في اليمن التي تتعاطى معه وفق ديناميكية علاقته مع حليفة الداخلي، بما فيها المستقبل السياسي لحزب المؤتمر الشعبي العام، فيما يبدو أن مستقبل الحزب مرتبط بالتموضعات السياسية المتغيرة لحزب صالح التي هي انتهازية أكثر من كونها مرونة سياسية، فالحزب الذي ظل في السلطة ثلاثة عقود، وكان الانتماء له وسيلة للحصول على مناصب وامتيازات، لا يستطيع التموضع بعيدا عن السلطة، وبالتالي هو على استعداد أن يضحّي بحلفائه لأجل ذلك، فعلى الرغم من تعرّض المؤتمر الشعبي العام لانشقاقات سياسية على مستوى القيادة والقاعدة الشعبية منذ اندلاع ثورة 2011 وحتى الحرب الحالية، فإن "المؤتمر" ظل محافظاً على طابعه الخاص حزبا ولد في رحم السلطة، فضلاً عن ارتباطه المحكم بمصير صالح السياسي، بحيث يجعل من الصعوبة فصل رأسي الكائن السيامي، والتكهن بفرص المؤتمر في حال اختفاء صالح.
منذ تدخلها العسكري في اليمن، كرست السعودية وسائلها السياسية باستمالة قيادات عليا كثيرة للمؤتمر الموالين لصالح لصف السلطة الشرعية، وذلك لتغيير موازين القوى داخل حزب المؤتمر الشعبي العام، إلا أنها ظلت تراهن على دور مؤتمر صالح، وصالح نفسه، في تغيير كفّة الحرب لصالحها عن طريق فض تحالفه مع جماعة الحوثي، فيما احتفظت الإمارات بعلاقتها غير المباشرة مع صالح، من خلال إعداد نجل صالح، العقيد أحمد، ورقة سياسية محتملة في المستقبل.
لا يمكن التكهن بمستقبل تحالف حزب صالح مع جماعة الحوثي، في ضوء التصعيد السياسي والعسكري الأخير بينهما، على أن التناقضات والصراعات بين الحليفين، والتي أصبحت جلية أكثر من السابق، لن تكون سبباً في فض الشراكة العسكرية والسياسية بينهما، فصالح الذي أخرج الآن أوراقه السياسية أمام حليفه، وكذلك أمام خصومه السياسيين، باعتباره يمتلك قوة سياسية وشعبية لا يستهان بها في الشارع اليمني، ربما لا يستطيع العودة إلى الوراء وإزالة الاحتقانات بين أنصاره وجماعة الحوثي، لكن صالح كأفعى كوبرا، يرقص على الثعابين الصغيرة، فهو قد لا يجاري حماقة حليفه في تدشين دورة عنفٍ جديدة في صنعاء، وبالتالي سوف ينتظر إقدام حليفه على الخطوة الأخيرة. وبالطبع، لن تلتهمه الثعابين الصغيرة التي أوجدها، فيما سينتظر تسوية سياسية تجود بها الدول المتدخلة في اليمن.
لا "مؤتمر" من دون صالح، هذا ما أراد قوله صالح للقوى السياسية اليمنية والأطراف الإقليمية المتدخلة في اليمن، لكن الحزب الذي خطط للانقلاب، ثم خاض حربه ضد اليمنيين مع حليفه الداخلي، لا يمكن أن يصبح حزبا وطنيا يعوّل عليه اليمنيون، مهما رفع شعارات وطنية، وحاول تقديم نفسه ضحية، فالمؤتمر وصالح هما من أوجدا مستنقع الفوضى الذي يغرق فيه اليمنيون اليوم.
نقلا عن العربي الجديد