لم يكن ثوار فبراير ليرهبهم القتل والاختطاف وكل وسائل القمع المختلفة، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كانوا كلما تعرضوا للقمع كلما زادهم ذلك صلابة وتمسكاً بثورتهم وساحتهم، وهو يعكس طبيعة الشخصية اليمنية المستفَزَّة التي يزيدها القمع ثباتاً وتحفزاً نحو الأمام، وفي الثورة محطات كثيرة من تلك المظاهر.
نتذكر يوم الثلاثاء 22 فبراير أول يوم لنزول جماهير أحزاب اللقاء المشترك إلى الساحة، وقبل أن يتم نصب أية خيمة في الساحة، هاجم حافظ معياد رئيس المؤسسة الاقتصادية اليمنية ببعض بلاطجته شباب ساحة التغيير ليلاً من الجهة الجنوبية في شارع الدائري، وسقط أول شهداء الثورة في صنعاء هو عوض السريحي، ولم تكن الساحة يومها سوى جولة الجامعة فقط ببضعة أمتار جنوباً، وبعد الهجوم مدد الشباب الساحة حتى وصلت جولة القادسية وأغلقوها من هناك، وأقاموا نقاط التفتيش فيها، وبدل أن يحقق البلاطجة انتصاراً حققوا انحساراً وتراجعاً.
في الثامن والعشرين من فبراير هاجم البلاطجة مع قوات الشرطة شباب الساحة من تجاه شارع الحرية شمالاً وشرقاً ولم يكن الشارع قد تم حجزه والتخييم فيه من قبل شاب الساحة، وبعد الهجوم تم تمديد المخيمات إلى شارع الحرية وأغلق الشارع هناك.
وفي العاشر من مارس هاجمت قوات الأمن المركزي ومعها بلاطجة المؤتمر الشعبي العام الساحة مجدداً من تجاه جولة القادسية التي كانت تمثل طرف الساحة من الناحية الجنوبية من قرب شارع الرقاص وشارع الزراعة وشارع الرباط، وبدل أن يعمل ذلك على انحسار الساحة استفز الشباب أكثر فتراجعت قوات الأمن والبلاطجة ومدد الشباب بعد ذلك خيمهم حتى جولة الرقاص قبل أن تسمى بجولة الشهداء، وأقاموا حاجزاً للتفتيش فيها ما اضطر نظام صالح يومها وبلاطجته أن يقيموا جداراً فاصلاً وعازلاً للثوار هناك.
ظلت الساحة تتمدد كلما تعرضت للهجوم من قبل الشرطة والبلاطجة على حد سواء لتعكس طبيعة المكابرة والعناد للشخصية اليمنية التي يمكن انقيادها بسهولة للمنطق والحوار ولا يمكن أن تنقاد بالعنف والقمع بالقوة، وتواصلت تلك المعادلة في كل مكان بعد ذلك. فلما كانت مجزرة جمعة الكرامة الشهيرة هاجم البلاطجة وقوات الأمن ساحة التغيير من الجهة الجنوبية عند "جدار الفصل العنصري" كما كان يطلق عليه الشباب، وسقط أكثر من 45 شهيداً وأكثر من 300 جريح يومها، عمل شباب الثورة على هدم ذلك الجدار وتمددوا بساحتهم بعد ذلك حتى وصلوا ركن الجامعة القديمة لولا أوامر اللجنة التنظيمية بالعودة والاكتفاء بالساحة حتى جولة شارع 20، وتمددت الساحة أضعافاً مضاعفة، وتمددت بعد ذلك في شارعي الرباط والرقاص جنوباً، وحتى شارع القاهرة وشارع جامعة العلوم والتكنولوجيا باتجاه الستين.
كانت مجزرة جمعة الكرامة هي المستفز الأكبر لليمنيين، حيث تهاوى أركان النظام يومها من كل مؤسسات الدولة، واحتشدت القبائل إلى صنعاء، وتضاعف حجم الساحة أكثر من ثلاثة أضعاف، واستقبلت الساحة القبائل والعساكر والشخصيات التي قدمت استقالتها من نظام صالح، وتوافد على ساحة التغيير من كل المحافظات اليمنية.
كانت الفرصة سانحة وكبيرة للزحف على القصر الجمهوري واقتلاع صالح من مخبئه، لولا كان هناك تيار عمل على خلخلة الصف من الداخل، وخرج هذا التيار يسلك كل طريق لفرملة الزحف نحو دار الرئاسة، ولم يكن يوماً أفضل من ذلك اليوم بدافعه وشرعيته وضعف نظام صالح ووهن حكمه وقد كان عمل على نقل أسرته للخارج ذلك اليوم حين أيقن بنهايته ورحيله.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فحين أقدم نظام صالح على حرق ساحة الحرية بتعز وقمع كل تجمع بعدها ظن الكثير من الشارع اليمني وبلاطجة صالح أن الأمر سينتهي عند هذه النقطة، فدمرت ساحة الحرية فاستفز الثوار في تعز فأقيمت بدل الساحة ست ساحات مختلفة ومفتوحة في تعز لوحدها حتى لو كانت بدون خيام، واستردت الساحة الأم بعد فترة وجيزة؛ فقامت ساحة عصيفرة، وساحة شارع جمال، وساحة في الكمب قريباً من المحافظة، وغيرها من الساحات. وتمددت المظاهرات في كل شوارع المدينة ومدنها الثانوية في خدير والتربة والراهدة وغيرها.
هاجمت قوات الأمن المركزي في صنعاء وبلاطجة صالح أطراف ساحة التغيير باتجاه شارع 20 في عملية خائنة من قبل الحوثيين يومها لاستدراج شباب الثورة باتجاه الجامعة القديمة وتم الاعتداء عليهم بالرصاص الحي والضرب والقنابل الغازية وسقط كثير من الجرحى، بعد ذلك الهجوم تمددت الساحة مجدداً حتى وصلت ركن الجامعة القديمة باتجاه جولة كنتاكي، حيث أقام أحمد سيف حاشد والحوثيين منصة هناك منافسة للمنصة الأم وسط ساحة التغيير، ونصبت المخيمات في تلك الأماكن بطريقة أشبه للعناد.
حوصر نظام صالح بكل تحركات الثوار، فكلما هجموا على الساحة تمددت أكثر فأكثر، فما كان منه إلا المحاولة النهائية لقمع الثورة بإقامة الحروب المختلفة عليها في صنعاء وأرحب وتعز، وتم مهاجمة الساحة بالأسلحة المتوسطة والثقيلة في 18 و19 و20 سبتمبر، وهناك كان أول رد لحماية الساحة من قبل الشهيد البطل عبدالرب الشدادي حامي ساحة التغيير، وتم مطاردة القوات المهاجمة حتى مكتب أحمد علي صالح بالقرب من شارع الجزائر وتمددت الساحة مجدداً حتى وصلت جولة كنتاكي التي أسميت بعد ذلك اليوم بـ"جولة النصر".
بل إن الكثير من شباب الساحة تجاوز شارع الزبيري باتجاه شارع الجزائر ونصبت أول خيمة خلف جولة النصر، لولا تعرض المكان في اليوم الثالث إلى قصف بالأسلحة الثقيلة من عصر ومن قوات متمترسة في شارع الدائري الجنوبي وسقوط العديد من الشهداء العزل من السلاح داخل خيمهم حتى أن بعضهم تقطع أشلاء فكانت الأيدي في مكان والأرجل في مكان آخر. وبتحول المنعطف الهام للثورة بعد ذلك اليوم، أمرت القوات الحامية للساحة الشباب التراجع وعدم تجاوز ركن الجامعة القديمة، وظلت الخيام هناك حتى انحسار الساحة مجدداً بعد التوقيع على المبادرة الخليجية في 23 نوفمبر 2011.
على الرغم من القصف المتواصل لساحة التغيير والمناطق المجاورة لها بالأسلحة الثقيلة من المعسكرات المحيطة بصنعاء إلا أن الشباب ظلوا يمارسون ثوريتهم بكل شجاعة، وظل الناس المحاصرون في تلك الأماكن يزاولون أعمالهم الاعتيادية بكل شجاعة ولا مبالاة بالقصف، غير مكترثين بتلك القذائف الآتية من بعيد.
أبانت ثورة فبراير عن شجاعة منقطعة النظير في أوساط شبابها، فصور تلك الشجاعة توثق في كل زاوية من زوايا صنعاء وساحاتها.
ثلاث صور من تلك الشجاعة لن أنساها ما حييت؛ أما الصورة الأولى فلشباب الثورة في جمعة الكرامة وهم يقتحمون منزل محمد الأحول لمواجهة القناصين المجرمين هناك بصدور عارية وكيف تسلقوا بوابة البيت المغلقة من الداخل والإمساك بالقناصين رغم سقوط بعضهم شهداء، وكيف ركبوا جسراً بشرياً منهم ليتسلق الآخرون ظهور الأولين والوصول إلى البلاطجة والقبض عليهم.
أما الصورة الثانية في نفس اليوم والمناسبة أيضاً وهم يطاردون عزلاً القناصة في سلم عمارة الدبا فوق البنك اليمني للإنشاء والتعمير وعلى الرغم من سقوط شداء في تلك المطاردة والقبض عليهم متلبسين بقناصتهم. والصورة الثالثة لشباب الثورة وهم يقتحمون ميدان الثورة الرياضي وهم عزلاً من السلاح إلا إيمانهم بالنصر وأهداف ثورتهم دون الاكتراث بالرصاص المنهمر عليهم من كل صوب، وعلى الجانب الآخر قناصة ملثمون مختبئون وبأيديهم السلاح، ومع ذلك الوصول إلى بعضهم والإمساك بهم متلبسين، وكانت صورة ذلك الشائب الذي صرح به المخلوع صالح متهماً الشباب بأنهم "يدسعون الشيوبا" على الرغم أنه قتل اثنين من الشباب يومها.
تتزاحم الصور وتتكاثر ولا يستطيع أحد حصر تلك الشجاعات لشباب الثورة، وأهمها في نظري صورة الشهيد أنيس القدسي رحمة الله عليه يوم العاشر من مارس في أول هجوم كبير على ساحة التغيير وهو يصد المدرعة بيديه ويقف أمامها دون خوف ولا اكتراث، ليكتسب خبرة من ذلك اليوم ويقوم مرة أخرى ليحاصر المدرعة التي ترش شباب الثورة بمياه الصرف الصحي وكيف أعطبها في مسيرة شارع الجزائر يوم 17 أبريل، وكرر الفعل للمرة الثالثة في مسيرة عصر يوم 19 أبريل مع مدرعة أخرى ويعطبها قبل أن يرتقي شهيداً في ذلك اليوم المشؤوم مع 8 آخرين من خيرة شباب الثورة.
*توفيق السامعي باحث ومؤرخ يمني.
*المقال خاص بالموقع بوست.