ذات ليلة باردة من ليالي فبراير العظيمة (28 فبراير) كانت لنا والشهيد جمال الشرعبي مهمة حراسة المدخل الشمالي لساحة التغيير أسفل بوابة الفرقة؛ حراسة أمنية وحراسة رصد إعلامي أيضاً بسلاح الكاميرا والقلم الراصد للأحداث، فقد كانت أعظم سلاح نمتلكه يومها.
كانت الليلة باردة لدرجة أن تصطك فيها مفاصلنا من شدة البرد رغم ارتدائنا الملابس الشتوية ومعطف "ميري" من إرث "العسكرة"، وقبل أن يغادرني الشهيد جمال الشرعبي للتناوب، كان شاب من قبائل (آل طاهر) في شبوة يرمقني من خيمته في الساعة الواحدة منتصف الليل، ويومئ إلي أن إليّ أقبل، وذهبنا إلى خيمته المجاورة.
همس في أذني: لن يحصل شيء -بإذن الله- ودعنا نتعارف ونتجاذب أطراف الحديث.
- من أين أنت؟
- من شبوة..من آل طاهر (محمد الطاهري). نحن والبيضاني من بلاد واحدة!
- البيضاني؟!
- نعم ذلك الذي يسمي نفسه علي محسن الأحول، فهو تارة يلقب نفسه البيضاني في شبوة، والأحول في صنعاء..و(لقب ثالث لم أعد أتذكره).
- لم كل هذه الألقاب..قلت له؟!
- الرجل وأسرته أصحاب سوابق وبينهم وبين بعض الأسر الأخرى ثارات ومشاكل جمة. حتى نحن بيننا وبينهم ثارات. هو احتمى بنظام صالح هنا في صنعاء وتلقفه صالح ودعمه وقربه..صالح لا يدعم إلا أصحاب السوابق والمشاكل. الأحول من منطقة مثلث بين شبوة والبيضاء ومارب وفي كل مرة ينسب نفسه لمحافظة من تلك المحافظات إن كانت معه مشكلة مع القبائل المجاورة.
- حتى نحن لدينا ثارات مع قبائل أخرى..هذه الخيمة التي في الجوار لأناس من قبيلة أخرى مجاورة لنا في شبوة وبيننا قضية ثأر!
- ثأر وأنتم تتجاورون في خيمكم؟!
- نعم ولكن لا يحدث بعضنا بعضاً، ولا يلتفت أحدنا للآخر.
- نحن هنا التزمنا بالسلمية وتركنا أسلحتنا في بيوتنا ولن نتواجه هنا.
- ما رأيك أن نسعى بقضية صلح بينكم وننهي هذه الثارات خاصة وقد التقى جميعنا على التسامح في هذه الساحة؟!
كان الرجل يحدثني عن عدم التعرض لأي طرف منهما عن مشاكل البلاد وترك الثارات خلفهم إلى تنتهي الثورة، فتقافزت إلى ذهني صورة العرب الأولى حينما كان يلقى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يكلمه ولا يفكر بأخذ الثأر منه فإن لقيه بغير الحرم قتله.
ذهبت مسرعاً نحو الخيمة الأخرى لمواجهة الطرف الآخر، واتفقنا على أن نرعى صلحاً بين الطرفين برعاية شخصيات معروفة تكون شاهدة وضامنة للصلح، وفي النهاية حصل ما كنا نبغي من الصلح. كانت الفرحة غامرة لا تسعني بذلك الحدث. أحببت الرجل كثيراً بعد هذا الأمر، تجذرت علاقة الصداقة بيننا كثيراً. في الليلة التالية -وفي نفس المكان- كان جنود الفرقة الأولى مدرع يحيطون بالمكان، وعلى بوابة الفرقة الجنوبية اصطف الجنود واقفين بشكل حزام أمني. وكانت لجنة نظام الساحة هي الأخرى قد شكلت حزاماً أمنياً للساحة وحراستها، ولم يكن بين الصف من الجنود والصف من لجنة النظام سوى مترين فقط. كان الجميع متربصاً وينظر بعين الريبة للطرف الآخر، وكانت لجنة النظام متحسسة جداً من العسكر والجميع في حالة تيقظ عالية. كنت وصديقي الجديد بالجوار، ومع معرفتي بخلفيتي العسكرية وخاصة بالفرقة الأولى مدرع وبعض منتسبيها لا تزال قائمة، ولا أخفي توجسي أنا الآخر من ذلك الحزام العسكري من الجند.
تقافزت الذكريات القديمة لنفس الصور حينما كنت في صف العسكر في الفرقة أيام مظاهرات الفترة الانتقالية عامي 1992 و1993 حينما كانت تجوب مظاهرات صاخبة تلك الأماكن وكنا مكلفين بالتصدي لتلك المظاهرات على اعتبار أنها مظاهرات فوضوية يحرض عليها الحزب الاشتراكي وبعض الشخصيات، وخاصة النائب سلطان السامعي بعد تبنيه المؤتمر الجماهيري بتعز الذي قيل يومها أنه يدعو إلى استقلال تعز، كما صوره لنا نظام صالح يومها.
تذكرت أنني كنت شخصياً جندياً ينحاز إلى صف الشعب المطالب بمعيشة كريمة والبلد يعيش سباقاً في انهيار اقتصادي، وتذكرت أنه ليس كل جندي قاتلاً أو أنه سيقتل عمداً حتى وإن تم توجيهه بذلك.
في تلك اللحظة أجريت اتصالاً بأحد زملائي الضباط لأسأله بالضبط:
- هل تم جمعكم وعمل داخلية لكم في شأن المظاهرات؟ وهل هناك توجيهات لكم بالتصدي للمظاهرات أم حماية المتظاهرين؟
- صدرت التوجيهات لنا فقط بحماية المنشآت وليس لكم دخل بالمتظاهرين ولا تتعرضوا لهم.
استشفيت من كلامه أنه لا يوجد تحريض البتة على المتظاهرين كما عهدناها في المظاهرات السابقة، وهنا اطمأنت نفسي وقلت لزملائي يومها: أبشروا فإن الفرقة الأولى مدرع واللواء علي محسن سيكونون معكم. وكان من ضمن ما اعتمدت عليه من معطيات تلك النتيجة (انضمام اللواء محسن) أنه يشعر بالغدر من الرئيس صالح وقد حاك له الكثير من المؤامرات في حروب صعدة الستة حتى وصل به الأمر إلى محاولة اغتياله، وأنه يتحين الفرص للانضمام إلى أية ثورة يمكن أن يقوم بها الشعب، وهو ما كان في هذه الثورة.
بعد ذلك أخذت بيد صديقي (الشبواني) وفتحنا الحديث مع الجنود والمساعدين وأحد الضباط هناك وقلت لهم أنا منكم وأحد منتسبي الفرقة، وخاصة الضابط المناوب ليلتها، وقدمنا لهم الشاي وجلس الجنود وأخذوا راحتهم بالحركة والتنقل، وبدأنا نلعب الشطرنج مع الضابط المناوب على الحديقة الصغيرة في تلك البوابة، وتآلف الجميع، واندمج بعضنا مع البعض الآخر، وصار بين الجنود المرابطين ولجنة النظام الكثير من التآلف، حتى كان يوم الاعتداء الأول من قبل بلاطجة المؤتمر في الحارة جوار فندق الجامعة وحصلت اشتباكات بالأيدي والحجارة والعصي وتدخل عساكر الفرقة لفض الاشتباك دون التحيز منهم لطرف من الأطراف.
تفانى الجنود في أداء واجبهم المعتاد حتى كان اليوم المشؤوم يوم جمعة الكرامة، وإحاطة القناصة بالساحة إحاطة الأسورة بالمعصم، وتم إطلاق الرصاص على الشباب من كل اتجاه من شارع الرباط، ومن شارع الرقاص، ومن شارع الدائري العام ومن الجهة الشمالية للساحة من الفنادق المجاورة للجامعة في جولة الجامعة، وأصيب العقيد حسن الشميري في بطنه بطلقة رصاص من أحد القناصة في فندق جولة مذبح جوار الجامعة. ولأول مرة يتم استهداف منتسبي الفرقة من الضباط والجنود إلى جوار الشباب قبل أن يعلن اللواء علي محسن تأييده للثورة ومن خلفه قيادة المنطقة الشمالية الغربية.
وعلى الرغم من انتقالي من تلك المنافذ إلى منفذ جولة القادسية، بعد حادثة الاعتداء على الساحة من جهة الجنوب من قبل حافظ معياد وبلاطجته وسقوط أول شهداء ساحة التغيير بصنعاء، إلا أن التواصل المتين ظل بيني وبين صاحب شبوة محمد الطاهري، وظل يتابعني أينما كنت، وأنا أتحسس أخباره، وكان يزودني بالكثير من المعلومات، خاصة تلك المعلومات الآتية من شبوة بانضمام مؤخرة أحد الألوية للثورة بعد حادثة الاعتداء المتعمدة على أنابيب الغاز، وكذلك يبلغني بأحداث المنفذ الشمالي للساحة.
تمنيت أن ننجز صلحاً بينهم وبين آل الأحول (البيضاني) إلا أن الجرح بينهم وبين البيضاني كان غائراً بحسب ما فهمت منه، ولم يأت يوم جمعة الكرامة، إلا وكان محمد الطاهري من الشباب القلائل الذين اقتحموا منزل محمد الأحول (البيضاني) وأحد الذين قبضوا على القناصة وتسوروا البوابة المغلقة وخرج وهو يصرخ أنه قبض ملفات مهمة من غرفة إدارة القناصين المعتدين، وكان أحد الشباب (لا أتذكر اسمه) بجواره يمسك القناصة، وهو الذي أظهرته وسائل إعلام المخلوع مؤخراً على أنه أحد مرتكبي تلك المجزرة، ولم يكن هو سوى أحد الشباب الشجعان الذين قبضوا على القناصة. وفي تلك الحال كانت المأساة أكبر من أن نتصورها، فلم نصادف في كل حياتنا اعتداءً وسقوط شهداء كذلك اليوم، كنت أود أن أضحك من فعل الرجل، إلا أن المأساة أبكتنا يومها حتى نسينا أنفسنا، خاصة بعدما علمنا باستشهاد زميلنا وحبيبنا ورفيقنا جمال الشرعبي في تلك المجزرة المروعة، ولم ألق الرجل بعدها إلى اليوم؛ لأنه كان يحدثني أنه ذاهب للاغتراب في المملكة.
ما أخلص إليه، هو أننا في تلك الساحة الطاهرة كنا متطلعين بتطلعات وآمال لا يحدها حد ولا يصدها صد، وكانت القلوب طاهرة نقية إلى حد أن يصطلح حتى أصحاب الثارات، وكم من مظاهر حسنة شهدناها، ولم تكن قصة الطاهري في الصلح وحدها في الساحة، بل لقد شهدت الساحة الكثير من الصلوح في مثل هذه القضايا، خاصة وقد انضمت القبائل للساحات متجردة من أسلحتها وضغائنها، والتقى الجميع على قلب رجل واحد في بداية الأمر قبل أن تدخل الكثير من المكايدات السياسية وألغام الطابور الخامس وزرع عناصر الاستخبارات المتعددة لإفساد الساحة بعد ذلك.