الدوحة ثمة موعد ما ضربه القدر بيني وبينها.. كل ثلاث سنوات يقدر الله اللقاء، تستقبلني، تهدهدني، تربت على رأسي.. ثم تودعني أنظر إليها متسائلة: على الموعد؟ تجيب: على الموعد! تكرر الأمر ثلاث مرات، يفصل بين كل مرة وأخرى ثلاث سنوات، ودائماً ينتهي اللقاء بنهاية العام.. ديسمبر.
دائماً حيّرني الأمر، كيف يشتاق المرء لمكان لم يعرفه من قبل؟ هل ثمة حبل سري ما يربطنا مع الأماكن التي قُدّر لنا في الكتاب المعلوم أن نزورها خلال رحلتنا القصيرة على الأرض؟ هل تبقى هذه الأماكن ترسل لأرواحنا إشارات غير مرئية من أجل أن يحدث اللقاء؟ فتتعانق أرواحنا بالمكان ، تلتمس السكينة المؤقتة قبل أن تغادر إلى حيث أتت. لماذا يناديه مكان؟ ويُعرض عنه مكان؟ لماذا لم أشتق أبداً لأن أزور أية مدينة خليجية أخرى؟ مع كل التقدير للمدن الأخرى وساكنيها.
رغم أن ثمة لقاء عابر وقع قبل أربع سنوات بيني وبين دبي والشارقة، منحتني الشارقة عيد ميلاد رائع لا أنساه، قضيته على ضفاف بحيرة خالد أتأمل في الحُسن
أما الدوحة فمختلفة، وددت أن أمرّ بها قبل أن أمر بها. عجيب أمري وأمرها، كنت أتطلع إلى القدوم إليها. فكرت.. هل لاسمي واسمها دخل؟ هل لأن الدوحة تعني "الشجرة"؟ وما أنا - كما أظن نفسي- إلا طائر مسافر تغويه السماء ولا ينضب شوقه للطريق؟ ربما!
لكن حتى الطائر علاقته بالشجرة ليست ثابتة، يأتي إليها يستشعر راحة وسكينة، لكنه أبداً لا يسكن إليها ما استطاع إلى التحليق سبيلاً.
غادرت الدوحة قبل أيام، بعد شهور عدة قضيتها فيها في مهمة عمل مؤقتة. وأنا أغادرها تذكرت ما دار في قلبي والسيارة تقطع الطريق إلى الفندق في الزيارة الأخيرة. كنت أحدثها وأقول لها: "كوني لطيفة هذه المرة، هدهديني كما ليس من قبل، تعلمين، قلبي متعب هذه المرة، كما ليس من قبل، فكوني لطيفة وامنحيني فيك وقتاً أطول".
تذكرت هذا الحديث وأنا أغادرها للمرة الثالثة. وكأنها استمعت بالفعل لصوت قلبي وأجابت الأمنية!
المرة الأولى
جئت إلى الدوحة في المرة الأولى لأدير مجلة شهرية في مجال الأعمال، حيث كان عملي وقتها في الصحافة الاقتصادية. كانت للزيارة ظروف طريفة أتذكرها الآن وأبتسم. كانت مجلة محدودة التوزيع وفريق عملها صغير، كانت الفقيرة لعفو ربها كاتبة السطور تقريباً هي الفريق كاملاً - وددت لو وضعت هنا وجهاً مبتسماً باكياً - إضافة إلى عدد، لا يتعدى أصابع اليد الواحدة من الزملاء الإداريين، والمصمم الفني وعدد بسيط من الزملاء الذين يرسلون موادًا صحفية بطريقة التعاقد بالقطعة، وأيضاً مترجم يتعامل على البعد.
استمرت التجربة ثلاثة أسابيع عملت فيها على إصدار عدد يناير من عام 2010 للمجلة، ثم حلقت بعيدًا، صدر المجلة ممهورة باسمي الميمون، وكان المقام استقر بي في قارة أخرى بعيدة، أمريكا الشمالية، في أقصى شمال الولايات المتحدة حيث الشتاء أبيضًا.
72 ساعة قضيتها في القاهرة قادمة من الدوحة في الطريق إلى "آن أربور"، و25 درجة مئوية كان الفاصل بين درجة حرارة الدوحة - تراوحت وقتها حول الـ 25 مئوية وصفر في "آن أربور"-.
سمّيت ما حدث لي وقتها "بسترة صباح حمامو"، عن تجربة الانتقال من طقس حار لطقس بارد.
ظننت وقتها أن هذه البسترة صدفة استثنائية تحدث مرة واحدة في الحياة، ولكن وياللعجب، فالتاريخ الذي أصفه دائماً بأنه كان "كائناً مستديراً" آثر أن يكون كذلك معي على المستوى الشخصي كما كان على مستويات كثيرة.
فها أنا ذا وبعد ست سنوات من المرة الأولى يتكرر المشهد معي أغادر ربيع الدوحة - الدوحة تكاد لا تعرف الشتاء- إلى بلاد مثلجة، إلى إسطنبول الجميلة، سيدة المدن.
بين المرة الأولى عام 2009 والثالثة عام 2015 كانت مرة ثانية، استغرقت عدة أيام لدورة تدريبية تعرفت فيها عن قرب على واحدة من أجمل الشخصيات الإعلامية في وطننا العربي، المذيعة اللامعة والمحبوبة الأستاذة خديجة بن قنة، معرفة أثرتني على المستوى الإنساني قبل المهني.
ثمة مرة رابعة أسميها "ما قبل الأولى" فكانت قبل ذلك.
يقال إن الإناء ينضح بما فيه، إذا كان الأمر كذلك فإن البشر ربما يُخبرون عن الأرض التي "نضحتهم".
وقد أخبرني عن الدوحة أحد أبنائها قبل أن أراها، أخبرني عنها المهندس القطري خالد اليافعي. كنت أنا وهو ضمن مجموعة اختارتها "مؤسسة اليابان" مكونة من 12 عضواً من دول عربية عدة، إضافة إلى تركيا وإيران، لقضاء ثلاثة أسابيع في مدن يابانية مختلفة، لمشاهدة تجربة اليابان في التنمية الصناعية، التي مضت متوافقة مع تجربة فريدة في مراعاة البيئة والحفاظ عليها.
وكان خالد اليافعي من أكثر أفراد المجموعة تعاوناً ولطفاً. ضمت المجموعة أربع سيدات وثمانية رجال.
السيدات الأربع هن: رشا حفظي التي فازت مؤخراً بعضوية المجالس المحلية السعودية عن مدينة جدة، وشدوى عصمت أستاذة السياسة بجامعة القاهرة، والدكتورة بيتا آياتي أستاذة الهندسة الكيميائية بإحدى جامعات إيران، وكاتبة السطور.
ولأن الرحلة اليابانية العجيبة هذه شملت تجوالاً مكوكياً داخل اليابان، كنا لا نتنقل إلا ونحن نحمل حقائبنا بين والقطارات والباصات ونندم أننا لم نسافر خفافاً. وكان المهندس خالد اليافعي دائماً حاضراً يمد يده للمساعدة.خلوقاً مبتسماً مشغولاً دائماً بالتقاط هدية جديدة لابنته ريم، التي التقيتها عندما حضرت للدوحة لاحقًا. وعلمت لاحقًا أن خالد لم يكن استثنائا، بل كان ممثلًا لأهل قطر بلطفهم وتواضعهم واحترامهم للغريب.
يقول أهل قطر عنها إنها "كعبة المضيوم"،وأقول عن الدوحة أنها "يثرب العصر"، التي آوى إليها من لم تتسع لهم قلوب بلادهم، ليجدوا فيها سكناً وأمناً.
البعض يرى أن قمة العقل والإخلاص أن تعيش في بلادك حتى لو نُكّل بك، حتى لو زُجّ بك في غياهب السجون ظلماً وبغياناً- أعرف أماً كانت تفضل أن يعيش ابنها الثوري في سجن مصر، لتتمكن من أن تراه على أن يفرّ إلى الحرية والحياة في مكان آخر، كان قطر- والبعض يرى أن بلادك حيث تعيش كريمًا، لا بأس دائماً سيكون لكل أمر وجهات نظر.
هذه الكلمات لا شك سيضيق الكثيرون أعينهم وهم يقرأونها، ويفسرون محبة المكان بتفسيرات سياسية ونظريات وتشكيكات .. وأشياء أخرى، وهو أمر مؤسف حقًا.
مؤسف أن تلون السياسة كل شيء في الحياة، فالبعض لا يفكّر في كل الأمور إلا من خلال نظارة السياسة، يرفض أن يرى بلدان الله بشرًا ومكانًا وروابطًا أو ببساطة " جزء من خلق الله". ومن ثم إذا كانت السياسات الخارجية بين بلدان هؤلاء في مزاج حسن مع سياسات هذه البلاد الأخرى، فأهلها طيبون أخيار، أما إذا كان الأمر غير ذلك، فالعكس بالعكس.
غير أن الأرض بلدان وعباد، وتاريخ وروابط وأفكار، ومحن وانتصارات، كل ذلك لا يمكن أن يختصره موقف سياسي هنا أو هناك عارض أو دائم.ومن المحزن أن تضع السياسة - أو حتى بعض التجارب مع بعض أهل هذه الأرض أو تلك - حوائط سيكولوجية بين قلوبنا وبين أماكن على الأرض وبشر لم نعرفهم.
... أما عن الدوحة التي غادرتها، بعد أن حجزت في قلبي مكانة لم تتمكن منها مدن أخرى فستبقي في مكانها ومكانتها في القلب دائمًا. كعبة المضيوم.. أو "يثرب العصر".