شهد النصف الثاني من العام الجاري أحداثاً بالغة التعقيد والخطورة على الساحة التركية، لم تكن محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة إلا قمة رأس الجليد فيها، لتتداعى عقب ذلك سلسلة تطورات سياسية وأمنية واقتصادية تركت أثاراً عميقة على الدولة التركية ونظامها الحاكم بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، وتوجهاتها وخياراتها الداخلية والخارجية.
صيف تركيا الساخن جداً لم يكن مؤثراً فقط على الساحة التركية، فالملف السوري الذي تعتبر تركيا أحد أبرز الأطراف الفاعلة فيه ناله من الاضطرابات التركية الأمنية والسياسية والاقتصادية ضررٌ بالغ الشدة، تدفع جراءه الثورة السورية بمختلف مستوياتها، السياسية والمدنية، والعسكرية بشكل أكبر ثمناً باهظاً، ونكبة حلب الحالية تبدو أقسى أثمانه الظاهرة حتى الآن.
وإذا كانت التطورات الأمنية الدموية والهزة الاقتصادية التي ضربت تركيا عقب الخلاف مع روسيا والتخلي الأمريكي والأوروبي عن دعم تركيا في مواجهة التصعيد الروسي، قد ساهمت في تبني القيادة التركية سلسلة تغييرات مفاجئة في تحالفاتها واستراتيجياتها، فإن تصاعد الصراع مع المليشيات الكردية المسلحة التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي بزعامة صالح مسلم ساهم بشكل فاعل بانتهاج الحكومة التركية سياسة براغماتية اضطرارية تجاه الخصم القديم الروسي.
صانع القرار التركي استشعر خطورة تحول حلم "الكيان الكردي" في شمال سوريا إلى حقيقة، فهذه المليشيات عاشت لفترة وجيزة وهم أن الدعم الأمريكي اللامحدود لها سيحول دون قيام الأتراك بعمل يمنع طموحاتها الرامية لفرض أمر واقع في شمال سوريا يمكنها من خلط أوراق المنطقة وتغيير خارطتها، ويبدو أن الدعم الروسي والإيراني، وتسهيلات نظام الأسد زادت من حدة تهور هذه المليشيات وذهابها بعيداً في طموحاتها هذه، لتصطدم لاحقاً بإصرار تركي على ضرب هذا الحلم المجنون بالقوة العسكرية عبر عملية "درع الفرات" التي أزاحت قوات تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من مواقعها على الحدود التركية وقطعت الطريق على خطة مليشيات صالح مسلم وحلمها بالكيان الكردي المزعوم.
الانعطافة التركية الحادة صوب روسيا والكيان الصهيوني، والتراجعات التي انتهجتها الدبلوماسية التركية على هذين المحورين أنتجت عدداً من التفاهمات كان لا بد لإنجازها من قبول الأتراك بنهج جديد في تعاملهم مع الملف السوري نجزم أنه خطر للغاية على صيرورة الثورة السورية، ويعزز اعتقادنا هذا تصريحات المسؤولين الأتراك المهادنة لرؤية روسيا لحل في سوريا يرفض بشكل قاطع ونهائي أي نقاش في مصير بشار الأسد.
وعلى الضفة الأخرى لا يخفي الروس رضاهم عن تغير الموقف التركي في الملف السوري، ما دفع الروس للتغاضي عن التدخل العسكري التركي في الشمال السوري عبر عملية درع الفرات، وهي العملية التي أتت مباشرة بعد النجاح اللافت الذي حققته كتائب الجيش الحر والفصائل الإسلامية في عملية "ملحمة حلب الكبرى" الرامية إلى فك الحصار عن أحياء حلب الشرقية.
توقيت عملية "درع الفرات" ترك الكثير من الأسئلة دون إجابات مقنعة لدى ثوار سوريا الذين حذروا من خطورتها على جهودهم لفك الحصار، لا سيما أن فصائل الثورة اضطرت تحت الضغط التركي لسحب أعداد كبيرة من عناصرها من جبهات حلب المشتعلة وإرسالهم إلى جبهات الريف الشمالي التي أشعلتها عملية درع الفرات في مواجهة عناصر تنظيم الدولة.
مخاوف الثوار كانت في محلها، فالضعف الذي اعترى جبهات حلب جراء هذه الخطوة قدم للأسد وحلفائه مساعدة لا تخفى في نجاح الهجوم الوحشي الواسع على أحياء حلب الشرقية وخسارة الثوار معظمها لصالح قوات الأسد ومليشيات إيران وحزب الله المساندة له.
النكبة التي لحقت بفصائل الثوار في حلب لم تحوّل الأصوات المحذرة من مخاطر التحولات في الموقف التركي من الثورة السورية إلى أصوات منتقدة ومشككة في النوايا التركية وحسب، فالتشكيك بلغ حد اتهام الأتراك بالتفاهم مع الروس على ترك الثوار في حلب لمصيرهم في مواجهة الهجوم الروسي، مقابل غض روسيا الطرف عن عملية "درع الفرات"، ويجد أصحاب هذه الاتهامات في الصمت التركي والامتناع عن إدانة جرائم الروس وقوات الأسد والمليشيات الطائفية التي تدعمها إيران بحق مدنيي وثوار أحياء حلب الشرقية دليلاً على أن هذا التفاهم حدث فعلاً.
وإذا كانت الأدلة الثابتة على هذا التفاهم التركي الروسي لم تتوفر بعد، فإن الواقع يؤكد أن اهتمامات الحكومة التركية بالملف السوري تبتعد حاليا وبشكل كبير عن اهتماماتنا كثوار سوريين؛ والمسؤولون الأتراك لا يخفون هذا الافتراق بالاهتمامات؛ بل إن تصريحاتهم تكاد لا تخرج عن سياق نهجهم الجديد في مهادنة روسيا وتصوراتها وخططها لفرض واقع عسكري يصيب الثورة في مقتل ويمنح الأسد أوراق قوة إضافية للمضي في مخططه لإنهاء الثورة واستعادة السيطرة على كامل البلاد.
تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم الأخيرة في موسكو لا تترك مجالا للشك أن الدولة التركية تعمل على تحقيق مصالحها دون النظر إلى انعكاس ذلك على مصلحة الثورة السورية ودون مراعاة المخاطر المحدقة بها، وأن "موقفي موسكو وأنقرة من الأزمة السورية تقاربا في الفترة الأخيرة"، كما جاء في تصريحاته لوكالة سبوتنيك الروسية.
وبخصوص عملية "درع الفرات" أكد يلدريم أنّ العملية لا ترتبط بما يدور من أحداث في مدينة حلب، وادعاء يلدريم هذا تخالفه الوقائع وتدحضه النتائج؛ فجبهات الثوار في مدينة حلب عانت من نقص في العنصر البشري؛ ونحن هنا لا نذيع سراً، والسبب الأساس في هذا النقص هو اضطرار الكثير من الثوار المرابطين في حلب لترك جبهاتها للمشاركة في معارك عملية درع الفرات.
ونحن نعتقد كما الأتراك أن عملية درع الفرات في غاية الأهمية؛ وهي مطلب للثورة واستحقاق لا بد للثورة من مواجهته، قبل أن تكون مطلباً تركياً؛ ولكن خلافنا مع الأتراك كان على توقيتها؛ لأن كل المعطيات كانت تؤكد أن الأسد بدعم منقطع النظير من حلفائه الروس والإيرانيين يستعد لعملية واسعة ضد الثوار في مدينة حلب.
لا نستغرب تغير الموقف التركي من الملف السوري؛ فالسياسة التركية تعيش أزهى عصور براغماتيتها، بصرف النظر عن الأسباب، وشهدت خلال السنوات الماضية عدة انعطافات وتغييرات حادة لا تترك مجالا للشك أن صانع القرار التركي لا يبني مقارباته لمجمل الأزمات التي يتصدى لمعالجتها على ثوابت محددة؛ وإنما على متغيرات ذات مستويات متنوعة ومتعددة؛ في مقدمتها المستوى الأمني الداخلي، والاقتصادي شديد الحساسية للاضطرابات والأخطار التي تشهد تركيا الكثير منها.
ولأن الحراك التركي كان وما يزال بالغ الأثر في مسار الثورة السورية منذ غدت الثورة صراعاً مفتوحاً على التدخلات الخارجية، فإن التغيرات في الموقف التركي تتطلب من قادة المعارضة وقوى الثورة الحذر والانتباه وإعادة النظر في النهج الخطير المتبع من قبلهم منذ سنوات، القائم على الركون والتسليم بخطط وتصورات الآخرين للصراع السوري والحلول المطروحة له، والحذر على وجه الخصوص من الاعتماد على المواقف التركية التي أثبتت السنوات الماضية أنها تتسم بتكتيكات مرنة للغاية ومتغيرة بلا مقدمات؛ وتحكمها عوامل الصراعات المعقدة المحيطة بالجغرافيا التركية، وعوامل داخلية ليست أقل تعقيداً.
*عن مدونات الجزيرة