أصل الجمرة
الإثنين, 24 أكتوبر, 2016 - 10:25 صباحاً

هب من كانوا يطلقون على أنفسهم صفة الثوّار، قادمين من اليمن والعراق والحجاز، وضربوا حول المدينة/ العاصمة حصاراً طويلاً. بالقرب من مداخلها استعرضوا أسلحتهم وقواتهم العسكرية، وفي الليالي أشعلوا النيران وبثوا الخوف والهلع. مع مرور الأيام كانت أعدادهم تتزايد. لم تتلق المدينة المنورة، العاصمة، أي دعم عسكريّ من أي من الأمصار التي لا تزال تدين بالولاء ـ شكلياً ـ للحاكم المحاصر: عثمان بن عفان. تُرك الحاكم يواجهه مصيره.

  شوهد الحاكم عثمان وهو يحاط بالعزلة والحصار،ويغرق فيهما معاً. مثلت مكة ـ العاصمة الثقافية والدينية ـ مركز الاحتجاج الفلسفي ضد حكم عثمان. هناك كانت عائشة، وكبار الصحابة، تشن حملات يومية ضد الحاكم في المدينة المنورة، وتطالب بالإطاحة به والإتيان بحاكم آخر. أما هو، أي الخليفة، فرد على المحتجين بالقول: ما كنتُ لأنزع ثوباً ألبسنيه الله. لم يكن أحد في مكة يطالب بقتل الحاكم، بل عزله.

  بقي في المدينة عدد من كبار الصحابة مثل عبد الله بن عُمر، طلحة، الزبير، وعلي. انضم طلحة والزبير إلى الثوار، وفيما بعد سيعترف أهل البصرة بأنهم كانوا يتلقون الرسائل من الرجلين تحرضهما على التوافد لحصار المدينة والإطاحة بالحاكم باستخدام السلاح.

  وفي واحد من نهارات ذلك الزمن اجتاحت خيول الثوار العاصمة واتجهت إلى بيت الحاكم، الخليفة، واقتحمت الأسوار.

  كان محمد بن أبي بكر الصديق ـ ربيب علي بن أبي طلب وابن زوجته ـ من المجموعة الأولى التي اقتحمت منزل الخليفة. فيما بعد سيرفض علي بن أبي طالب تنفيذ حكم الإعدام في ابن زوجته، مستنداً إلى إنكار الشاب اشتراكه في "عملية" القتل. في غضون وقت قصير كان الثور قد قتلوا الخليفة وغرزوا سيوفاً كثيرة في جسده.

  خلال زمن حصار العاصمة أعلن علي بن أبي طالب حياده الكلّي، وقال إنه سيعمل فقط ناصحاً بين الخليفة والميليشيات التي تحاصر المدينة، وأنه لن ينحاز لأي من الأطراف المتقاتلة.

  وعلى مدى أسابيع ظل ينقل نصائحه للطرفين، أو ينقل رسائل الطرفين لبعضهما: الانقلابيون حول المدينة، والحاكم داخل المدينة.
  بينما وقف رجال كثيرون في المدينة إلى جوار "الخليفة" وخاضوا حرباً خاسرة سرعان ما أهلكتهم.
  خرج الثوار المسلحون ـ وقد نفذوا انقلاباً وحشوياً ناجحاً ـ وتجولوا في المدينة، وخلال ساعات كانوا قد سيطروا على العاصمة كلياً، وأخضعوها بمن فيها لإرادتهم.

  بعد أيام رأى الثوار أن الأمور ستفلت من أيديهم، وأنه "لا بد للمسلمين من إمام" فاختاروا علياً.

  قبل عليّ اختيار قادة الانقلاب المسلح له، وفي الحال نصّبه الثوار إماماً.

  وكان أول حاكم في الإسلام تنصبه جماعة مسلحة.

  تلك العملية السياسية رفضها من بقي من الصحابة الكبار في المدينة. اتخذ عبد بن عمر قراراً برفض العملية السياسية الجديدة والهجرة إلى مكة طالباً إخلاء سبيله. كان الوقت في الشهر الحرام، والناس في مشاعرهم المقدسة هُناك. نهر عليٌّ عبد الله بن عمر قائلاً: أعرفك طفلاً وكبيراً، كنتَ سيئاً في طفولتك كما في كبرك. سيقول علي الكلمة نفسها فيما بعد ضد خصومه في الشام.

  اجتمع قادة الانقلاب مع الخليفة الجديد واتفقوا على إجبار كل الناس على أداء البيعة. انطلق الثوار المسلحون، بالاتفاق مع الحاكم الجديد، إلى إجبار كل أهل المدينة على إعطاء البيعة. استثنى عليٌ كبار الصحابة، مثل محمد بن مسلمة وغيره، من الإكراه، فإكراه مشاهير الصحابة لن يؤدي إلى نتائج سياسية جيدة. لكنه اشترط عليهم كفيلاً: كل من رفض البيعة كان عليه أن يقدم كفيلاً. رأى كثيرون منهم أن العملية تلك لم تعد تربطها بمبدأ "الحكم الشوروي" أي صلة، ونزحوا عنه بعيداً.

  رفض عبد الله بن عمر، المعروف بعناده وثقافته الواسعة، العملية السياسية كما رفض أن يتخذ له كفيلا، فهم الانقلابيون باعتقاله وتعذيبه. لتلاشي فضيحة سياسية قال لهم علي: أنا كفيلة. فذهب الرجل إلى مكة ليروي ما حدث. بعد أقل من شهرين كانت مكة كلها قد اشتعلت ثورة ضد الحاكم الجديد، وضد نسف قيمة الشورى في الحكم باعتبار مركزيتها في العقيدة السياسية الإسلامية التي درسوها من المعلم الأول.

  ذهب بعض الصحابة إلى عليّ وسألوه عن حد القصاص، ودم الخليفة المهدور، عن القضاء والحدود والعقوبات؟ قال لهم إنه غير قادر على محاسبة الفاعلين فهم السلطة الفعلية، سلطة الأمر الواقع في المدينة. اقترح عليه المغيرة بن شعبة المهادنة عاماً، حتى تستب له الأمور. فهمس فيه ابن عباس "لقد غشّك المغيرة".

  تلك اللحظات ستحدد طبيعة "السلم الأهلي" داخل المجتمع المسلم لآلاف السنين!
  سيقول المسلمون في كل مكان العبارة التي رددتها عائشة، وكبار الصحابة في مكة:


لسنا ضد عليٍّ، لكننا نريد أن يعود الأمر شورى بين المسلمين، ولن نقبل بخليفة نصّبه انقلابيون، حتى لو كان علياً نفسه. الأمر لا يتعلق بعليّ بل بحق الأمة في الاختيار.
  ستكون تلك هي الحجة السياسية التي سيرفضها عليّ، وستحدث الحروب والمجازر على هامش ذلك الجدل السياسي.

  في طريق علي إلى البصرة ليواجه "أم المؤمنين عائشة"، وكانت قد سبقته على رأس حشد من كبار الصحابة، سيهمس الحسن في أذن أبيه: 


"لو استمعتْ لنصحي، ولحقنا بمالٍ لنا في ينبع حتى تثوب العربُ إلى عوازب أحلامها"


فيرفض الأب نصيحة الولد.

  سيدخل المجتمع المسلم في ذهول عام، فقد تمكنت مجموعة انقلابية من مقتل خليفة لم يكن أداؤه كحاكم مقنعاً لهم. وها هو الخليفة الجديد نصبه انقلابيون لا يعرف أحدٌ عنهم شيئاً ويرفض هو فكرة إعادة النظر في العملية السياسيةتلك والبحث عن وسيلة أخرى للاختيار. سيستند الخليفة الجديد إلى حجة ليست خالية من المنطق تقول إن الأمة بحاجة إلى عملية انتقال سريعة وأن أهل المدينة لا يرفضون خلافته. وسيقول خصومه: لكن المدينة برمتها واقعة تحت سيوف الانقلاب وميليشياتهم غير القانونية القادمة من البر، كما أنها ليست كل الأمة، ولا بديلاً عنها.

  أما أم المؤمنين عائشة فلم تكن، بصورة عامة، لترضى عن عليّ. فهو الرجل الذي فاز بامتياز إنجاب سلالة النبي وذريته، ذلك الامتياز الذي حرمتْ منه كل نسائه. وليست تلك المشاعر مما يمكن الاستهانة بها، كما إنها غير سياسية، ولا عقدية، بالمطلق.

  ستتدحرج الكرة وسيتلقفها معاوية من الشام، وسيدخل المجتمع المسلم في طور من الملوكية على الطريقة الساسانية. ومن الداخل ستعيش الأمة مشروخة ذهنياً ونفسياً، تمر عبر حلقات من الصراع الوحشي والسكون المتوجس، وهكذا دواليك..

* من حائط الكاتب على فيس بك 

التعليقات