[ السجينات في اليمن ]
يقتلهن مرور الوقت البطيء.. تتأمل إحداهن الحياة وحيدةً معزولةً عن العالم الخارجي.. تنقضي أعمارهن في غياهب الأرض، خلف قضبان السجن، وأسوار المعاناة. يتغير العالم، وتختلف أوجه الحياة كليًا، إلا في السجون، تظل كما هي لا تتغير.
ذاك باختصار وضع السجينات في اليمن، والتي لخصت معاناتهن السجينة "سمية"، وهو اسم مستعار، بعد رفضها الكشف عن اسمها لاعتبارات اجتماعية، مختزلة تلك المعاناة بالقول: "ضاعت سنوات عمري خلف القضبان".
تضيف "سمية" لـ"الموقع بوست": "ضاعت بضع سنوات من عمري داخل السجن، بسبب أمانة ذهب، سُرق من منزلي، ولم أستطع حينها سداد قيمته أو معرفة من سرقة".
"سمية" ليست وحدها في المعاناة، فهذه المعاناة هي سمة مشتركة بين 500 من السجينات في اليمن عمومًا، واللاتي يقبعن خلف قضبان السجون، بحسب إحصائيات غير رسمية حصل عليها "الموقع بوست".
نظرة دونيّة
بألم وحزن بالغَين، تستعرض "سمية" معاناتها ومعاناة السجينات عمومًا بالقول: "لم يكن السجن وضياع عمري فقط هو الثمن الذي دفعته، فقد تخلى عني أهلي، وفقدت أطفالي، وطلقني زوجي، وانقطع تواصلهم بي منذ لحظة دخولي السجن وحتى اليوم".
تضيف "سميّة": "حتى الآن أعيش وحدي، وأحاول جاهدة ألا أختلط بالمجتمع حولي، خوف الإجابة على سؤال: لماذا أسكن وحدي؟ وأين أهلي؟ وخوف ذكر قصة سجني فينظر لي المجتمع نظرة استنقاص ودونية".
معاناة وحرمان
ويرى منصور الصرحة، نائب مدير عام مؤسسة السجين الوطنية، مدير البرامج والمشاريع، أن أبرز معاناة السجينات اليمنيات في السجون تكمن في "عدم وجود سجون خاصة، وإنما أقسام تتبع الاصلاحيات المركزية في جميع محافظات الجمهورية".
يضيف الصرحة في حديثه لـ"الموقع بوست": "معاناة السجينة تتمثل كذلك في "تخلي الأهل عن السجينة، ورفض عودتها للمنزل بعد انتهاء العقوبة"، مشيرًا إلى ما سماه بـ"تناقض المجتمع في تقبله للسجين إن كان رجلا، ونبذه للمرأة السجينة".
وأشار إلى أن هذه الثقافة المجتمعية بتخلي الأهل عن السجينة تدفع بعض السجينات لتفضيل البقاء في السجن بعد انتهاء العقوبة، خوفًا من العودة للشارع، والبعض تخرج لدار إيواء بعضها يتبع اتحاد نساء اليمن، وبعضها يتبع مؤسسات أخرى"، مستدركًا: "رغم ذلك تعاني أيضا السجينة حتى في دور الإيواء، بسبب عدم زيارة أحد لهن، وعدم تواصل الأقارب مع السجينات".
الترافع أمام المحاكم
ولفت نائب مدير مؤسسة السجين، وهي منظمة مجتمع مدني، أنشئت في 2013 كمؤسسة متخصصة في تقديم الرعاية للسجناء والسجينات، إلى أن معاناة السجينات تمتد كذلك إلى أمام النيابات والمحاكم.
يقول: "تتبع المرأة اليمنية أهلها، ولا تعتمد غالبًا على نفسها في الدفاع عن حقوقها، وهذا أثّر كثيرًا على السجينة، التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها أمام القضاء فتخسر قضيتها، وتبقى في السجن"، لافتًا إلى "تخلي الأهل عن السجينة فلا تجد محاميًا يدافع عنها، أو يترافع لقضيتها، فتنتصر لمظلوميتها".
وتوافق السجينة "سمية"، ما ذكره "منصور الصرحة"، بالقول: "إن معاناة السجينات تشمل كذلك، عدم وجود سند قضائي لهن في المحاكم وأمام القضاء"، مؤكدة "التأخر في البت في القضايا وعدم وجود سرعة البتّ في القضايا، ونطق الأحكام".
وأشارت في هذا الصدد إلى "أن الأهل يتخلون عن بناتهم السجينات ليس لأسباب مجتمعية فقط، ولكن بسبب عدم تجاوب القضاء أحيانًا، من خلال وضع الحلول البديلة، التي تحفظ كرامة السجينة وأهلها"، حسب وصفها.
وصمة عار
في هذا السياق، يقول المحامي محمد المحمودي: "في السجون تقبع الكثير من النساء اللواتي حكمت عليهن الظروف بالبقاء خلف القضبان لسنوات عديدة، سواء كان السجن تنفيذًا لعقوبة محكوم بها عليهن، أو بسبب إعسار السجينة، لعدم قدرتها على دفع حقوق خاصة حُكم بها عليها".
ويؤكد المحامي المحمودي في حديث لـ"الموقع بوست" أن "المرأة السجينة هي أكثر شرائح المجتمع معاناة، بسبب العادات والتقاليد"، مضيفًا: "بغض النظر عن سبب دخول المرأة السجن، أو نوع الجريمة المنسوبة لها، فهي في نظر المجتمع مُذنبة، ولو كانت بدون ذنب، وهي مجرمة أيضا في نظرهم ولو لم توجد جريمة تُدان بها، بل وحتى لو صدر لها حكم بالبراءة، ستظل وصمة العار تلاحقها".
يوافق المحامي المحمودي ما أوردته "سمية" ونائب مدير مؤسسة السجين في تخلى الأهل عن السجينات، مؤكدًا أن "السجينة منذ أول يوم في السجن، أهلها يتخلون عنها، ويتركونها تواجه مصيرها لوحدها".
وأضاف: "أيضًا، إذا كان للسجينة أطفال، إما تُحرم منهم، أو يُودعون معها خلف القضبان، وإذا أطلق سراحها يرفض الأهل استلامها، بحجة العيب والعار، والمجتمع ينظر لها نظرة امتهان، كل ذلك بسبب العادات والتقاليد".
ويشير المحمودي إلى أن السجينة "حتى وإن غادرت السجن بخطوات مثقلة بالخوف، ستظل تعاني من حرية مُكبّلة، ورعب من معاناة جديدة، أطرافها الأهل والمجتمع، فيكون وقْعها على السجينة، أشدّ باسًا من السجن نفسه"، وفقا للمحمودي.
معاناة نفسية وصحية
واستطرد نائب مدير مؤسسة السجين في توضيح معاناة السجينات بالقول إن "المعاناة تشمل كذلك غياب أو ضعف الخدمات في السجون وخصوصا الطبية، وعلى وجه التحديد قسم الولادة ورعاية الحوامل، حيث يوجد فقط طبيب عام رغم وجود أمراض مزمنة كالقلب والسكري وغيرها".
وفي الجانب النفسي، يؤكد الصرحة أن المعاناة تشمل كذلك "عدم وجود مساحات صديقة في السجون، ولا أماكن خاصة لتغيير نفسية السجينة، وعدم وجود أماكن خاصة لزيارة الأهل".
وتابع: "أما في مجال التعليم، فيحدث تسرب للسجينات من التعليم، كون الفصول التعليمية التي تتبع الإصلاحيات المركزية لا تفعّل الفصول التعليمية، وإن كان هناك اهتماما محدودا في تدريب السجينات على المهن اليدوية والحرفية كصناعة البخور، والتطريز والخياطة رغم اهتمام المنظمات المحلية والدولية بجانب التأهيل، إلا أن الكثير منهن لم يلتحقن بها".
وأشار إلى معاناة السجينات الأمهات اللاتي يلدن في السجن، مؤكدا أن "الأم السجينة تعاني مع أطفالها، ولا يجدن تغذية مناسبة كأمهات، وإنما تكون التغذية عامة، خصوصًا أثناء الحمل والولادة، كذلك لا يجدن اهتماما خاصا بهن وبأطفالهن، كونهن أمهات مرضعات، ويحملن هَمّ أطفالهن داخل السجون، ويبقى الأطفال سجناء بلا ذنب إلى جانب أمهاتهم".
خصوصية التحقيقات
من جهته، يرى النقيب محمد صالح، أحد الضباط في إصلاحية إب المركزية، أن أبرز ما تعانيه السجينات كذلك "عدم توفر الخصوصية في التحقيقات".
وأضاف في حديث لـ"الموقع بوست": "أيضا تشمل معاناة السجينات كذلك، أنه لا توجد مختصات في النيابات وفي البحث الجنائي للتحقيق، الأمر الذي لا يحافظ على خصوصية السجينة، فيما يتعلق بتفاصيل قضيتها".
وتابع: "إضافة إلى ما سبق فإن المعاناة كذلك، تشمل النظرة المجتمعية لنزيلة السجن، بل ونبذها، ما ينتج عن ذلك من آثار مجتمعية كارثية مثل التفكك الأسري".
المجتمع المدني
وعن دور مؤسسة السجين، يقول منصور الصرحة، إن المؤسسة، وبعيدًا عن تقديم العون المادي، والإفراج عن المعسرين، تعمل في إطار اللجنة العليا لرعاية السجناء ومساعدة المعسرين، على توعية وتثقيف السجناء بحقوقهم، لمعرفة حقوقهم القانونية حتى يستطيع الدفاع عن نفسه.
وأضاف: "كما نقوم بتقديم خدمات العون القضائي للسجناء والمعسرين، عبر توكيل محامين لهم، والترافع عنها أمام المحاكم والنيابات"، موضحَا أن المؤسسة تقدم الخدمة للسجناء من الرجال فقط، بسبب عدم قدرتهم على تقديم العون القضائي للسجينات، بسبب ظروف الحرب، والوضع الحالي الذي تمر فيه البلاد".
وأكد أن كل ما يقومون به في هذا الصدد، يتم بالتنسيق والشراكة مع الجهات الرسمية، وكذلك منظمات المجتمع المدني المهتمة في هذا المجال، ومنها اتحاد نساء اليمن، والذي يقدم كذلك خدمات العون القضائي للسجينات.
تجدر الإشارة إلى أننا كنا قد قمنا بزيارة إلى اتحاد نساء اليمن، لتوضيح معاناة السجينات، وما يقوم به الاتحاد في هذا الإطار، وحاولنا كذلك التواصل بهم هاتفيا وعبر وسائل التواصل، إلا أننا لم نجح بالوصول إلى الشخص المعني، لانشغالهم في مشاريع لها علاقة بوضع النساء في اليمن، خصوصا في ظل الحرب، بحسب ما ذكرته إحدى موظفات الاتحاد خلال الزيارة.
كما حاولنا التواصل مع مسؤولة النساء في إصلاحية صنعاء، وبعض الإصلاحيات الأخرى، إلا أننا لم نجح، بسبب رفضهن التصريح بذلك، كونهن لسن مخولات بالحديث إعلاميًا، نظرا لحساسية هذا الملف.
ورفضت بعض المحاميات اللاتي تم التواصل بهن، الإدلاء بأي تصريحات حول هذا الملف الإنساني، مرجعات السبب إلى "الظروف التي تعيشها البلد من جهة، ومخاوف تسييسه من جهة أخرى".
مطالب مُلحّة
تشدد "سميّة" على ضرورة "توفير العون القضائي المتكامل لمساعدة السجينات والبتّ السريع في قضاياهن، وتوعية المجتمع لتغيير نظرته عن السجينات، فليس كل سجينة مجرمة"، حسب وصفها.
وتؤكد كذلك على "توفير الأغذية المناسبة، والرعاية الصحية والتعليم لكل السجينات حتى يجدن ما يعملن به بعد خروجهن من السجون، وكذا الاهتمام بدور الإيواء، ومساعدة السجينات، ودمجهن في المجتمع بعد انتهاء أحكامهن القضائية".
وتشير في حديثها لـ"الموقع بوست" إلى أهمية "النظر في قضايا ارتفاع الأسعار، وخاصة إذا كان السجن بسبب سرقة أو ضياع ما يتغير سعره، ويرتفع ثمنه كالذهب وغيره، لتسطيع السجينة سداده، وإرجاع الحقوق الخاصة لأصحابها، بحسب أسعارها التي كانت عليها أثناء فترة السجن، وبنفس الأسعار، حتى يستطعن استكمال العقوبة والخروج من السجون".
معاناة مشتركة
ما ورد أعلاه من معاناة، تخص كل السجينات في الجمهورية اليمنية، ولا تقتصر على محافظة دون أخرى، بل هي معاناة مشتركة، تكتوي من لهيبها السجينات في كل الزنازين والقضبان.
كما أن هذه المعاناة ليس لها علاقة بالحرب التي تدور في البلاد منذ خمس سنوات، بل هي معاناة ممتدة منذ عقود، بيد أن الحرب ساهمت في زيادة هذه المعاناة، خصوصَا مع ازدياد عدد النزيلات، وعدم وجود القدرة الاستيعابية الكافية لهن.