[ الملك سلمان ]
لأول مرة منذ تأسيسها، تتزعم السعودية تحالفًا عسكريًا من عشر دول عربية، وتقدم على التدخل العسكري في بلد عربي آخر، من أجل حماية أمنها والأمن القومي للعرب، وتتصدر واجهة الأحداث، لتتزعم العالم العربي في مواجهة عدو مشترك، يتمثل في المشروع التوسعي الإيراني، وأطماع ملالي إيران في استعادة أمجاد ونفوذ الإمبراطورية الفارسية، والانتقام من العرب الذين دمروا تلك الإمبراطورية أثناء حركة الفتوحات الإسلامية.
قيادة السعودية للتدخل العربي في اليمن، جاءت بعد أن نجحت في كبح جماح بشار الأسد عندما أراد القضاء على الثورة السورية. ويمكن القول إنه لولا التدخل السعودي في الملف السوري، من خلال دعم ثوار سوريا بالسلاح، فإن جيش بشار الأسد كان قادرًا على سحق الثورة السورية خلال أسبوع أو أسبوعين، ولولا التدخل السعودي في اليمن، فإن جيش المخلوع علي صالح كان قادرًا على سحق المقاومة الشعبية اليمنية خلال شهر أو شهرين. وأيضًا، لولا تدخل السعودية في سوريا واليمن، وتزعمها لتحالف عربي في مواجهة إيران، لكان المشروع الفارسي قد تمدد في مناطق لم يكن يحلم بالوصول إليها.
عوامل الصعود
حققت السعودية صعودًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا بعد عملية "عاصفة الحزم"، وذلك عندما ظهر أن لديها جيشًا محترفًا وأسلحة حديثة ونوعية، واستطاع طيرانها الحربي شل حركة الجيش اليمني الموالي للمخلوع علي صالح والحوثيين خلال أول 15 دقيقة من عملية "عاصفة الحزم"، وهو الجيش الذي كان يوصف بأنه رابع أقوى جيش عربي.
هناك الكثير من العوامل التي جعلت السعودية تحقق صعودًا سياسيًا وعسكريًا لافتًا، لتظهر كزعيمة للعالم العربي في مواجهة أي خطر مشترك يهدد الأمن القومي للعرب، أو يسعى لتغيير هويتهم الثقافية والدينية والتاريخية.
وفيما يلي أهم عوامل صعود السعودية:
- فراغ القوة:
إن التراجع القيادي لجمهورية مصر، بعد الانقلاب العسكري ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، والذي جاء كآخر حلقة بعد سلسلة الانهيارات المتتالية للدول العربية القوية، مثل العراق وسوريا، واللتان أصبحتا مسرحًا للنفوذ الفارسي، وانكفاء الجزائر على نفسها وأزماتها الداخلية، رغم قوة جيشها، بالإضافة إلى الاضطرابات التي عصفت بالعالم العربي خلال السنوات الأخيرة، والتغول التدريجي للنفوذ الفارسي في بعض دول المشرق العربي، كل ذلك جعل السعودية تشعر بهشاشة ورخاوة الكيان العربي من حولها، ودفعها إلى محاولة ملء فراغ القوة في الإقليم، خاصة بعد أن فقدت الثقة بحلفائها الغربيين.
- قيادة طموحة:
كانت السياسية الخارجية السعودية، قبل تسلم الملك سلمان لمقاليد الحكم في بلاده، تتسم بالصبر وطول النفس، وعدم الاستعجال بردود الأفعال، ومحاولة حل مختلف الأزمات بالوسائل الدبلوماسية، إلا أنه مع تسلم الملك سلمان للحكم، وإقدامه على إجراء تغييرات واسعة في الجهاز الإداري الأعلى في البلاد، والإشراك الكبير لجيل الشباب في إدارة البلاد، كل ذلك جعل المملكة تنظر للأخطار المحيطة بها نظرة تختلف جذريًا عن نظرة الإدارات السابقة، وتقدير عواقبها إن تم تجاهلها، أو محاولة حلها بالطرق الدبلوماسية، ولهذا، تتسم التوجهات الجديدة للإدارة الجديدة للملكة بمواجهة الخطر قبل أن يستفحل وتكون كلفة مواجهته كبيرة للغاية.
- البعد الطائفي للصراع:
إن البعد الطائفي للصراع في الإقليم، وتمحوره بين "السّنة" و"الشيعة"، شكّل دافعًا للقيادة السعودية الجديدة بتزعم العالم العربي السّني لمواجهة الخطر الفارسي الذي يتخذ من الطائفية وسيلة للفتنة والاقتتال بين العرب من أجل إضعافهم، وبالتالي سهولة السيطرة على ثرواتهم، ووجدت السعودية نفسها مجبرة على تولي دور القائد للعالم العربي والإسلامي السني، نظرًا لمكانتها الروحية لدى المسلمين، لإشرافها على أهم مقدساتهم، وهي الكعبة المشرفة (بيت الله الحرام)، وأيضًا التهديدات التي تطلقها إيران وحلفاؤها من الشيعة العرب ضد السعودية، وأنها "الهدف القادم".
- اضطراب العلاقات الدولية:
لا شك أن حالة الاضطراب التي شهدتها العلاقات الدولية خلال السنوات الأخيرة أثّرت بشكل مباشر على طبيعة الصراعات في منطقة الشرق الأوسط أو المشرق العربي، وهذه الاضطرابات أثّرت أيضًا على التحالفات السياسية والعسكرية، وكان من نتائجها، بخصوص دول الخليج تحديدًا، أنها جعلت السعودية تبادر إلى الاعتماد على الذات في مواجهة الأخطار التي تهددها وتهدد جيرانها العرب، وذلك بعد أن شعرت بتخلي حلفائها الغربيين عنها، فاندفعت خلال السنوات الأخيرة إلى الاهتمام ببناء جيش حديث، وتسليحه وتدريبه بما يواكب التطورات المذهلة التي شهدتها صناعة وتكنولوجيا السلاح في العالم.
دلالات الصعود
يحمل الصعود السياسي والعسكري السعودي بعد عملية "عاصفة الحزم" الكثير من الدلالات، فيما يلي أهمها:
- أن هذا الصعود شكّل حوله أول حالة من الإجماع العربي حول قضية محددة خلال تاريخ العرب الحديث، الذي اتسمت فيه العلاقات العربية - العربية بالانقسام والتشتت والخصومة فيما بينهم حتى حول أبسط القضايا.
- أيضًا أنه لأول مرة يتشكل تحالف عسكري عربي من عشر دول موجه ضد عدو مشترك، وبشكل أعاد للعرب نوعًا من هيبتهم ومكانتهم الإقليمية والدولية، وجعل الآخرين يعيدون التفكير في علاقتهم مع الدول العربية، ومواقفهم من قضاياها وأزماتها الساخنة.
- التحالف العربي ضمن عملية "عاصفة الحزم" ضم الدول العربية المستقرة نسبيًا ولا تشهد حروبًا أهلية، واستثنى الدول العربية التي تشهد حروبًا أهلية أو أزمات سياسية واقتصادية خطيرة، وبعضها لا يعجبها تزعم السعودية للعرب، أو تربطها علاقات ومصالح اقتصادية مع إيران، أو تفضل سياسة الانكفاء على الذات.
- نجاح التحالف العربي ضمن عملية "عاصفة الحزم" في كبح التمدد الإيراني في العالم العربي من شأنه أن يشجع العرب على تشكيل تحالفات عسكرية مستقبلًا لمواجهة أي خطر مشترك أو يستهدف إحدى الدول العربية.
أعباء القيادة
لا شك أن الصعود السياسي والعسكري للسعودية بعد عملية "عاصفة الحزم" قد جعلها تتولى مهمة قيادة الإقليم، وذلك بسبب "فراغ القوة" في العالم العربي الذي خلفه انهيار العراق بسبب الاحتلال الأمريكي، وانهيار سوريا بسبب ارتماء قيادتها في حضن إيران وتدمير البلاد، وتراجع الدور المصري بعد الانقلاب العسكري ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، وانكفاء الجزائر حول نفسها بسبب أزماتها الداخلية.
وبما أن السعودية وجدت نفسها مجبرة على ملء فراغ القوة، وتولي مهمة قيادة الإقليم، فإن لذلك أعباء كبيرة، تحتم على القيادة السعودية التعامل معها بحكمة وذكاء، حتى لا تتأثر آخر قلعة حصينة في العالم العربي، وينهار كيان العرب وتتحول بلدانهم إلى مستعمرات للقوى الغازية، وفيما يلي أهم الأعباء:
- الكلفة المادية:
لا شك أن قيادة السعودية للإقليم سيجعلها تتحمل الكلفة المادية الباهظة لإدارة الصراع، باعتبارها أكبر دولة عربية إنتاجًا للنفط، وهذا الأمر سيجشع حلفاء السعودية العرب على التخلي عن مشاركتهم في تحمل الكلفة المادية، بل إن بعضهم يسعى إلى توظيف تحالفه مع السعودية لابتزازها ماديًا، والحصول على مكاسب مادية خاصة، وإلا سيهدد بالانتقال إلى التحالف مع الطرف الآخر.
- الضغوط الغربية:
معلوم أن الدول الغربية لن تسمح لأي دولة عربية بأن تلعب دورًا سياسيًا وعسكريًا يتجاوز المقاس أو الخطوط الحمراء التي تحددها حكومات تلك الدول، وذلك خشية أن تتحول تلك القوة، مع مرور الوقت، إلى خطر يهدد دولة إسرائيل التي زرعها الغرب في قلب العالم العربي والإسلامي، ولذلك ستمارس الدول الغربية ضغوطًا ضد السعودية كلما تزايد دورها، وربما تصل تلك الضغوط إلى التهديد بشن عملية عسكرية ضدها بغرض إضعافها.
- كلفة تعزيز الجبهة الداخلية:
إن كلفة قيادة السعودية للإقليم سيترتب عليها تدهورًا نسبيًا في المستوى المعيشي لسكان الدولة، وربما يؤدي ذلك إلى تململ اجتماعي، وستستغل ذلك دول إقليمية وغربية لاستقطاب فصيل من العائلة الحاكمة، ودعمه للقيام بانقلاب عسكري سيحظى بتأييد شعبي ودولي، ولهذا يجب على القيادة السعودية التنبه لأي ثغرة في الجبهة الداخلية وتعزيزها، والاستفادة من درس الانقلاب الفاشل مؤخراً في تركيا، والحرص على تنويع مصادر الدخل والإيرادات، حتى لا يتأثر المستوى المعيشي للمواطنين بشكل كبير بسبب الكلفة الباهظة لقيادة الإقليم.
وأخيرًا، يمكن القول إن الدول السعودية باتت تعيش مرحلة فاصلة من عمرها القصير، قياسًا بعمر الدول، ذلك أن صعودها السياسي والعسكري إما أن يصنع منها قوة إقليمية كبرى مهابة الجانب، وإما أن يدفع دولًا وحكومات إقليمية وغربية غيورة من هذا الصعود، فتتآمر على المملكة، وتستخدم مختلف الوسائل لإضعافها، وتفجير الوضع من الداخل، أو الاستهداف العسكري المباشر.
ولتجنب ذلك، ستجد القيادة السعودية نفسها حريصة على ضبط إيقاع الصراعات في المنطقة، وإعطاء فرص للحلول السياسية، وتعزيز تحالفاتها وعلاقاتها مع الدول العربية ومع الدول الكبرى الشرقية والغربية، من خلال امتصاص الضغوط، والتفعيل المستمر للعمل الدبلوماسي، وعليها الاستفادة من دروس التاريخ المعاصر، مثل حجم المؤامرات التي استهدفت العراق بسبب صعوده سياسيًا وعسكريًا في عهد صدام حسين، والتي استهدفت مصر بسبب صعودها سياسيًا وعسكريًا في عهد جمال عبد الناصر.