صباح السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1962، أذاع راديو صنعاء نبأ سيطرة الجيش على السلطة بعد 6 أيام فقط من وصول الإمام البدر إلى عرش اليمن.
على الأثر، تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع بين اليمنيين، وميدان تصفية حسابات بين مصر والسعودية.
يقول أحمد يوسف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إنّ الثوار في اليمن طلبوا من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر دعمًا عسكريًا بطريقة شبه فورية.
ويتحدث عن اتصالات سبقت الثورة بوقت ليس بطويل، بين الضباط الأحرار في اليمن وعبد الناصر، الذي كان يسمح لعبد الرحمن البيضاني بمخاطبة الجماهير اليمنية من خلال إذاعة صوت العرب.
بدوره، يلفت الكاتب والدبلوماسي اليمني علي محمد زيد إلى أن السعودية وقفت إلى جانب الملكيين ودعمتهم للعودة إلى الحكم، في حين أن مصر كانت قد وعدت الضباط الأحرار بالدعم في حال قيامهم بالثورة.
ويضيف: "لم يكن أحد من المدنيين أو المصريين يتوقّع أن المسألة ستتوسع إلى حد إرسال جيش كبير إلى اليمن، وأن يصبح القتال في كل مكان شمال صنعاء".
رواية "غير مكتملة" لحرب اليمن
على مدى عشرات السنوات، بقيت الرواية الرسمية لحرب اليمن غير مكتملة، وكأنها حرب سقطت من الذاكرة إلى أن جاءت مذكرات القادة الميدانيين والسياسيين لتكشف كثيرًا من خبايا ما حدث في تلك الفترة.
وفي هذا السياق جاءت مذكرات الفريق عبد المنعم خليل، مدير هيئة عمليات القوات المصرية في اليمن، ومذكرات الرئيس محمد أنور السادات، المهندس السياسي لتلك الحرب.
وجاءت أيضًا مذكرات كل من الرئيس عبد الرحمن الإرياني، والشيخ عبد الله الأحمر شيخ مشايخ قبائل حاشد اليمنية، ورئيس الوزراء اليمني محسن العيني.
ففي مذكراته، يقول عبد المنعم خليل إن طبيعة الحرب في اليمن لم تكن غزوًا، بل كانت لمعاونة شعب عربي شقيق.
ويردف بأنه "كان على حكومة اليمن في عهد الثورة وعلى القوات المصرية التي تقدّمت لتحمل أمانة حماية هذه الثورة، أن تتقابل مع مجتمع قبلي تحكمه الخلافات والانقسامات، ولذا سارت معارك السلاح جنبًا إلى جنب مع معارك التوعية".
الثورة في اليمن و"فرصة" عبد الناصر
في العام 1965 انسحبت بريطانيا من قناة السويس، لتتّجه الأنظار إلى عدن، باعتبارها المنطقة الإستراتيجية التي اختارتها بريطانيا كقيادة جديدة للشرق الأوسط.
لكن هذا التمدد البريطاني كان يهدده الخطاب القومي الذي كان يتصدره عبد الناصر، ولذلك عملت بريطانيا على دعم الحكم الملكي في اليمن في ذلك الوقت.
وبينما كان ما حدث في العام 1961 من إنهاء للوحدة بين مصر وسوريا بمثابة الانتكاسة لمشروع عبد الناصر وضربًا لمكانته كزعيم عربي، تبنى النظام المصري بعدما عاش عزلة سياسية لقرابة العام، سياسة ثورية نشطة استرجاعًا لهيبته الخارجية التي تعد أحد مرتكزات شرعيته في الداخل.
في تلك الأجواء، اندلعت الثورة في اليمن عام 1962 ضد الحكم الملكي، ووجد عبد الناصر في هذه الثورة فرصة للعودة إلى مسرح الأحداث مرة أخرى.
في مذكراته، ينقل رئيس الوزراء اليمني محسن العيني عن السادات قوله: "أريدك أن تطمئن إلى أننا نعد لكل أمرٍ عُدته، ولكل احتمالٍ ما يلزم. هذه القبائل ينبغي ألاّ تزعجنا، هل تعرف أننا الآن في سبيل إرسال الصاعقة إلى اليمن؟ إننا ندرب جنود الصاعقة على أكل الثعابين، فمن يستطيع الوقوف أمامهم؟"
وهو لم يسارع إلى الاعتراف بالجمهورية اليمنية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى إرسال طائرة محملة بعدد من المنفيين اليمنيين والذهب والبنادق وسرب من الطائرات تحميها مجموعة من قوات الكوماندوز.
حينها طلب عبد الناصر دعم الاتحاد السوفيتي، الذي سارع هو الآخر إلى الاعتراف بالجمهورية اليمنية، فأرسلت موسكو طائرة من نوع أنتونوف للمساعدة في التحرك في ظروف اليمن الصعبة وتسهيل نقل المزيد من القوات والإمدادات المصرية لليمن.
لكن أحمد يوسف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، يشير إلى أن تقديرات صانعي القرار في مصر كانت تشير إلى أن الأمر لن يحتاج سوى لدعم عسكري خفيف يؤدي إلى الغرض المطلوب، فيما أثبتت التطورات لاحقًا أن هذا التقدير لم يكن صحيحًا.
الموقف الأميركي من الثورة في اليمن
من جانبها، رأت بريطانيا ما يحدث في اليمن تهديدًا كبيرًا لمصالحها. ففي أحد الاجتماعات بين الملكة إليزابيث ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان، قال الأخير إن كثيرًا من الأمور في منطقة الخليج مرهونة بموقفنا في عدن، وإن خروج بريطانيا من هذه الأخيرة يعني نهاية نفوذها في الخليج.
وفي ما يخص الولايات المتحدة، كان ما يجري في اليمن بعيدًا عن اهتمامها حيث كانت واشنطن في ذلك الحين متورطة في حرب فيتنام.
وقد وصل الأمر إلى درجة أنه عندما دار نقاش حول المسألة اليمنية بين رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان والرئيس الأميركي جون كينيدي، قال هذا الأخير لماكميلان: "أنا لا أعلم أين يقع اليمن".
وكان ابتعاد الولايات المتحدة عمّا يدور في اليمن يغذّيه في الواقع سبب آخر؛ وهو رغبة واشنطن في تسوية الخلافات مع عبد الناصر لإبعاده عن موسكو.
أما عبد الناصر، فقد كان كل ما يريده هو إعادة الحياة لمشروعه الذي عصفت به رياح الانفصال عن سوريا، وأن الطريق إلى ذلك لا بد أن يمر من بوابة عدن من خلال القضاء على المحتل البريطاني، الذي ما زال يسيطر عليها.
وفي الآن عينه، مثّلت ثورة اليمن فرصة لعبد الناصر من أجل ردع الملك سعود، الذي دعم الانفصال السوري عن مصر.
وفي غضون أيام، بدأ ميناء الحديدة يستقبل السفن الحربية المصرية المتجهة نحو صنعاء. فقد كان عبد الناصر يعتقد أن مهمة قواته ستنتهي سريعًا، وأنه يكفي إرسال لواءين من المشاة فقط.
وبحسب علي محمد زيد، الكاتب والدبلوماسي اليمني، بدأ الدعم المصري بحوالي أربعة ضباط لدرس الواقع، ثم أُرسلت كتيبة، لكن القتال توسّع ووصل إلى حوالي 34 ألف مقاتل بين ضابط وجندي.
بدوره، يقول الباحث في جامعة برينستون آشر أوركابي: "عندما جاءت مصر إلى اليمن بلا خرائط ولا استخبارات لا عن الواقع السياسي اليمني ولا عن الصراعات القبلية، وصلت إليه تقريبًا لتكتشف أن هناك جبالًا".
ويردف بأن هذا الواقع "شكل صدمة كبيرة للقوات المصرية"، لافتًا إلى أن "الدبابات والمركبات الآلية لا يمكنها اجتياز الجبال".
"الجيش المصري سيصطدم برجال القبائل"
وفي مذكراته، يؤكد محسن العيني الذي كان أول وزير خارجية لجمهورية اليمن، أنه كان رافضًا لفكرة التدخل العسكري المباشر لمصر في اليمن.
ويروي كيف حاول ثني عبد الناصر عن الأمر حين التقاه في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 1962، شارحًا له تعقيدات الوضع في اليمن وأن الجيش المصري سيصطدم برجال القبائل المتمرسين على حروب العصابات في المناطق الجبلية والوعرة التضاريس، والتي لم يتدرب الجيش على القتال في مثلها.
في مذكراته، يقول مدير هيئة عمليات القوات المصرية في اليمن عبد المنعم خليل: "إن طبيعة الحرب في اليمن لم تكن غزوًا بل كانت لمعاونة شعب عربي شقيق، وكان على حكومة اليمن في عهد الثورة، وعلى القوات المصرية التي تقدمت لتحمُّل أمانة حماية هذه الثورة أن تتقابل مع مجتمع قبلي تحكمه الخلافات والانقسامات، ولذا سارت معارك السلاح جنبًا إلى جنب مع معارك التوعية".
وبينما طلب منه عبد الناصر الذهاب إلى السادات لإقناعه بذلك، فهو صاحب فكرة التدخل، يروي أن السادات قال له: "أريدك أن تطمئن إلى أننا نعد لكل أمر عدته، ولكل احتمال ما يلزم. هذه القبائل ينبغي ألا تزعجنا..".
وبحسب اللواء أحمد قرحش، أحد قادة ثورة سبتمبر 1962، فإن المدد المصري أصبح على مشارف الحدود السعودية، والإعلام المصري في ذلك الحين كان قويًا جدًا، وفق ما يقول.
دعم سعودي في حرب اليمن
من جانبها، وأمام هذا التحرك السريع من عبد الناصر لم تقف السعودية مكتوفة الأيدي، فسرعان ما بدأت الرياض دعم القبائل الموالية للإمام البدر بعربات عسكرية وأسلحة متطورة.
وفي 4 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1962، أعلنت السعودية والأردن تحالفًا عسكريًا لدعم الملكيين في اليمن.
وبعد 6 أيام، أعلن البدر من الحدود السعودية أن 3 جيوش تزيد على العشرين ألفًا ستخوض معركة إسقاط الجمهورية في صنعاء خلال 4 أسابيع على الأقل.
وفي هذا الصدد، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة أحمد يوسف، أن الخطر على السعودية من الثورة اليمنية كان سياسيًا في المقام الأول، أي أن ينشأ على حدودها نظام يختلف في توجهاته السياسية عن النظام السعودي.
وهكذا، بدأت الأمور تتعقّد في الميدان وتحوّل اليمن إلى ساحة حرب كبيرة، وأصبح هناك جهتان تتصارعان في البلاد كل منهما تدعمه قوى خارجية.
وبينما اتسعت المعارك وأصبحت الحرب في الجبال، عد هذا الأمر صعبًا للجيش المصري، فبدأت القوات المصرية تتزايد يومًا بعد يوم.
ويذكر الباحث في جامعة برينستون آشر أوركابي، أن استراتيجية النفس الطويل كانت قرار عبد الناصر.
ويقول إنها كانت تقتضي الحفاظ على المثلث الإستراتيجي في صنعاء والحديدة وتعز للحفاظ على الوجود المصري في اليمن حتى اللحظة التي تنسحب فيها الإمبراطورية البريطانية، مما يمنح مصر شبه الجزيرة العربية الجنوبية بأكملها.
وفي أواخر يناير/ كانون الثاني من عام 1963، وصل المشير عبد الحكيم عامر إلى صنعاء وبقي فيها لأكثر من شهر.
وخلال تلك الفترة، قاد المشير ما عُرف بحملات رمضان بعد أن رفع عدد القوات إلى 30 ألفًا، لينتصر على الملكيين ويدخل مدينة صعدة دخول الفاتحين.
بحث عن مَخرَج من "مستنقع الحرب"
يكشف سلطان ناجي أن بعض الجمهوريين من بينهم عبد الرحمن الإرياني فكروا بعد نجاح حملات رمضان في الالتقاء سرًا بالملكيين لحل القضية من دون علم السعودية ومصر، والتقوا بالفعل في منطقة لحج.
لكن اللقاء لم يسفر عن نتائج ملموسة، وأشار ناجي كذلك إلى اتصالات سرية للمشير عامر مع الملكيين لإشراك بعضهم في النظام الجمهوري.
فقد كان البحث عن مخرج من تلك الحرب يشغل كثيرًا من القادة والسياسيين مع تحوّل الحرب إلى مستنقع تصعب النجاة منه.
ويقول أنور القاضي، قائد القوات المصرية في اليمن، إن طبيعة الحرب في اليمن كانت تقتضي اتخاذ قرار بالخروج العاجل للقوات المصرية بسبب الخسائر التي كان الجيش يتعرّض لها هناك.
أما وزير الحربية "أمين هويدي" فيرى في مذكراته "50 عامًا من العواصف" أن حرب اليمن لم تكن مسؤولة عن هزيمة يونيو/حزيران.
فالقوة الضاربة في الجيش المصري من الطيران والمدرعات وغيرها من القوات المخصصة للخطة "قاهر " لمواجهة أي حرب ضد إسرائيل كانت موجودة في مصر.
يقول وزير الحربية أمين هويدي في مذكراته: "حرب اليمن لم تكن أحد الأسباب الرئيسية للنكسة، فغياب قواتنا هناك لم يؤثر على توازن القوى في المعارك الدائرة، لأن قواتنا في سيناء لم تكن تحارب أصلاً لا معركة دفاعية ولا هجومية.. بل إن وجودها بعيدا في اليمن أنقذها من المصير المحزن الذي واجهته قوات سيناء، نتيجة لتصرفات قيادة خذلت وحداتها في زمن السلم والحرب على السواء"
ويذكر أنه كان قد كتب عدة تقارير للمشير عبد الحكيم عامر تحذّر من الوضع في اليمن، لكنه يردف بأن "كل التقارير كانت بلا جدوى فقد كان المشير عامر مشغولًا بمهام أخرى في تلك الفترة، وكانت تمضي شهور من دون أن يتمكن قادة الجيش من الاتصال به أو العثور عليه".
والقاضي عرض مخاوفه على الرئيس جمال عبد الناصر، والتي لم يعارضه فيها من الناحية العسكرية.
لكن عبد الناصر قال له بوضوح "إن الانسحاب بقواتنا غير ممكن، فهذا يعني انهيار ثورة اليمن، لافتًا إلى أن "هذه العملية سياسية أكثر منها عسكرية.. هدفها توجيه ضربة مضادة لضربة الانفصال في سوريا، ولا يمكن أن نترك اليمن".
من قطع العلاقات إلى اتفاق السلام
ومع ازدياد الوضع تأزمًا وتوترًا، لم يعد التراجع ممكنًا حتى لو تدهورت الأمور إلى ما هو أسوأ، وكان عبد الناصر مقتنعًا أن أمامه بعضًا من الوقت لحسم المعركة.
ويستذكر أحمد يوسف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، أن الأمر وصل في إحدى المرات إلى أن طلب المشير عامر من الرئيس جمال عبد الناصر إذنًا بمهاجمة قواعد الملكيين اليمنيين في الأراضي السعودية.
ويردف: "بعد أول غارة للطيران المصري على تلك القواعد قام الملك فيصل بقطع علاقاته مع مصر".
لكن مع تصاعد العمليات العسكرية ووصول الغارات المصرية على الحدود السعودية، تدخلت الولايات المتحدة عبر وسيطها لفرض اتفاق سلام بين الطرفين.
وقد قضى هذا الأخير بانسحاب مصر تدريجيًا مقابل أن تتوقف السعودية عن دعم الملكيين، وأن تراقب الأمم المتحدة هذا الاتفاق.
غير أن بريطانيا لم تساند الاتفاق وعملت على دعم الملكيين وتقويتهم بشكل سري، الأمر الذي اكتشفه عبد الناصر فقدم الأدلة للسفير الأميركي في القاهرة بأن بريطانيا تدعم الملكيين بالمال والسلاح، وأن هناك تقارير تشير إلى وجود أكثر من 20 ألف بندقية بريطانية بيد الملكيين، وهو ما نفاه السفير البريطاني.