سلبت الحرب من اليمنيين كل شيء ومنها هامش مساحة الاحتجاج في ساحاتها ووسائلها التقليدية، حتى أصواتهم وآراؤهم ورفضهم، ولم يتبق لهم من وسيلة للتعبير سوى مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أحالوا تطبيقاتها الرقمية المختلفة لجريدة تطبع بياناتها المنفعلة والصاخبة على أوراقها الجريحة بفعل الحرب ومآلاتها الدامية كساحة احتجاج كبرى يرفعون فيها أصواتهم ولافتات آرائهم إزاء كل حادثة أو قضية تمسهم أو تستنقص من حقوقهم.
وعندما علا صوت الحرب تاه في كنف دويها المريع ذلك الصدى المعبر عن حاجاتهم وهمومهم، إذ لا مكان للكلمة عندما تحضر لغة المدفعية وصخب الفجيعة، ليجدوا في رحاب الفضاء الرقمي الملجأ الذي انطلقوا إليه للاصطفاف كآخر ساحات التعبير والرفض الشعبي تجاه مختلف القضايا.
فعل ثوري رقمي
وبات من اللافت أن الصوت الإلكتروني الذي يأتي في خضم التحول الرقمي الصاخب، تحول إلى وقفات احتجاجية ومسيرات غاضبة أثبتت فعلها المؤثر ونجاحها في إحداث ضغط يتبعه تأثير فعلي كما هي الحال بعديد قصص ليس آخرها قضية "المنح المسروقة" التي أشعلها اليمنيون الأسبوع المنصرم ووصل صداها إلى مرتفعات جبال "معاشيق"، حيث ينتصب قصر الحكم لرئيس مجلس القيادة رشاد العليمي، إضافة لقضية الطفلات، زهور وأخواتها اللواتي تعرضن للاغتصاب بمساعدة زوجة والدهن المهاجر، وكذا قضية الفنان الشعبي وعازف الإيقاع، ملاطف الحميدي، الذي واجه موجة تنمر من أُسر تحمل اسمه العائلي نفسه، عندما استنقصت من مهنته وطالبته بالتخلي عن لقبه، وكانت بمثابة حملات استفتاء واع تصدت بعنفوان للتنمر والدعوات الاستعلائية والانتقاص من الآخر.
وبات معروفاً ذلك الارتباط بين الشباب وعالمهم الافتراضي، ولهذا فأغلب من يعبر عن القضايا هم فئة الشباب الذين كانت لهم فاعلية وحضور كبير في قيادة مختلف القضايا وإبرازها.
يرى مدير عام إدارة الشباب بمكتب الرئاسة، محمد المقبلي، أن الفضاء التعبيري الأساسي الذي يحمل صفة خاصة تناسب شخصية الشاب اليمني التي هي الفردانية والتفاعلية بحيث تتيح للفرد أن يبني رأيه السياسي ويتفاعل مع الآخرين، وباعتبارها وسيلة تفاعلية مباشرة "تعد بالتالي الوسيلة المؤثرة الأبرز في صناعة الرأي العام خصوصاً ومعظم المؤثرين اليوم طاقات شبابية على اتصال مباشر بالرقمنة والسوشيال ميديا حيث يجدون أنفسهم فيها".
بخصوص تقييمه لمدى تأثيرها لدى الفاعلين وصناع القرار، يعتقد أن الرأي العام الشبابي المعني بالمستقبل والتغيير والإصلاحات يجد الاستجابة من رئيس مجلس القيادة، الذي يقود إجراءات تصحيحية حقيقية مع مختلف القضايا الوطنية المثارة والتفاعل معها، ولهذا فالشباب اعتبروا هذا التفاعل "فرصة لإيصال أصواتهم ومطالباتهم، ومنها الاستجابة الرئاسية الأخيرة التي قضت بإزالة أبناء مسؤولي الشرعية وأقربائهم من كشوفات المستحقات المالية للابتعاث الدراسي بعد أن قادت السوشيال ثورة احتجاج إلكترونية".
بالتساوي مع السلطة
وليس بخاف أن هذه الشبكات أتاحت عملية تفاعلية ناعمة ومباشرة بين السلطة والرعية خصوصاً مع حرص الساسة وصناع القرار، كما هي الحال بالمواطن، امتلاك حسابات شخصية على هذه المواقع. ولهذا بات باستطاعة الجميع أن يتناول القضية التي يراها وينشرها في أكثر من منصة إلكترونية بالطريقة التي يراها، لتصل خلال دقائق إلى ملايين المتلقين ومن ثم تجد رجع صدى تقرره الأهمية والأثر الوجداني الذي تركته.
وهذا، وفقاً لمدير الشباب بالرئاسة، يؤكد أن التفاعل على رأس هرم السلطة "سيجده الشباب اليمني وسيلة ضغط لأجل إنجاز مزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي ستكون لمصلحة المواطن وخصوصاً الشباب كونهم المعنيين بالمستقبل والتغيير، وقد امتلكوا وسائل التعبير الشعبي بعد أن كانت وسائل الإعلام التقليدي محصورة على الصحافة الحزبية والرسمية".
كما يعد مؤشراً على "استعادة الضغط الشبابي الذي بدأ ينجز إصلاحات معينة خلال المرحلة الانتقالية عقب التوقيع على المبادرة الخليجية في عام 2011".
ووفقاً للأرقام فإن نسبة الشباب اليمني الذين يستخدمون الإنترنت تقدر بنحو 72 في المئة من إجمالي عدد السكان البالغ نحو 30 مليون نسمة.
لا للكلمة عند الحوثي
في مواقع سيطرة المليشيا الحوثية الأمر يختلف فلا ساحات تقليدية ولا سوشيال ميديا عصرية، كون مقصلة الرقيب والمخبر تحاصر كل مكان وكل فضاء إلكتروني، وتنكل بمن يعترض على ما ينتهجونه، إذ تؤكد تقارير حقوقية أن الميليشيا المدعومة من إيران لطالما اعتقلت نشطاء ورواد مواقع التواصل نتيجة آرائهم المخالفة لها أو لمجرد انتقادهم العابر لممارساتها القمعية، الأمر الذي دفع قطاعاً واسعاً من النشطاء والرواد في مناطق سيطرة الحوثيين لإخفاء هوياتهم أو استبدال "اليوزر نيم" بأسماء وهمية خشية الملاحقة القمعية.
ومنذ سيطرتهم على العاصمة صنعاء في عام 2014، لاحظ عدد من المستخدمين توقف خدمات التواصل الاجتماعي وبعض التطبيقات التي تتزامن مع ظهور أو تشكل قضايا معينة بين حين وآخر، حيث شكا المستفيدون من توقف الخدمة بشكل كامل على رغم استخدام غالبية مستخدمي الإنترنت تطبيقات "VPN" الخاصة بكسر الحجب، ولكن الخدمة لا تعمل بشكل جيد.
وتؤكد مصادر مطلعة أن المشكلة التي يعاني منها مستخدمو التواصل الاجتماعي هي بسبب الحجب من قبل شركة الاتصالات اليمنية "تيليمن" التي تسيطر عليها جماعة الحوثي منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء في عام 2014
من يدفع العدالة؟
ومثلما دفعت الحملات الإلكترونية الساسة والمؤثرين لاتخاذ إجراءات معينة تحت الضغط الإلكتروني، أثرت بالمقابل في تحريك ملفات وقضايا شكلت فيها عنصر ضغط على السلطات الضبطية والقضائية كما هي الحال في جريمة قتل الطفلة مها التي هزت عدن قبيل أسابيع عندما دفعت حياتها ثمناً بمقاومة محاولات الجاني اغتصابها، وأسهم ذلك الغضب الرقمي في دفع سلطات المدينة الساحلية لعقد "محاكمة مستعجلة" للجاني "الجار" الذي دفن جثتها في قبو منزله ليوم كامل بعد قتلها بطريقة وحشية.
وعلى ما في الأمر من إيجابية يمكن أن ترسي قيم الرفض الشعبي ورفد قيم العدالة، إلا أن ما يلحظ تناول القضايا بتلقائية جماهيرية لا تخلو من الشعبوية التي تدفعها العاطفة الجارفة والضخ المتوالي أو ما يعرف بـ"الميمات" أو قضايا الترند، نحو اتخاذ إجراءات قد تؤثر في سير العدالة.
فمثلما أصبح لدى الجميع أجهزة ذكية، إلا أنهم يتفاوتون في مستوى الوعي ومعرفة القانون، وهو ما أتاح للجميع التعليق والمشاركة وإبداء الرأي، الذي لا يكون متخصصاً في الغالب إزاء مختلف القضايا والدفع بها نحو الوجهة المراد الوصول إليها، بعلم أو من دون علم، أو إشعال الجدل والسجال المحتدم، فتتدخل تارةً، وتفتي تارةً أخرى في الإجراءات القضائية التي يستلزمها الدستور والقانون في المحاكمات خصوصاً بعد قدرتها على تحويل الأحداث إلى قضايا "رأي عام".
ويكشف المحامي، أنيس الخراز، أن قضايا الرأي العام تؤثر فعلاً في سير القضايا والدفع بها وتوجيهها وإن ادعى القضاة غير ذلك الكلام.
ويضيف المحامي اليمني، "أتذكر قضايا تم البت فيها بطريقة فيها لبس جراء سيطرة الدوافع العاطفية بعد تحريكها من الشارع والإعلام الرقمي الجديد".
ويستدل بقضية كان حاضراً فيها عندما "عقد أحد القضاة ثلاث جلسات في أسبوع وجلستين في أسبوع وعقد الاستئناف جلستين في أسبوع كون هناك قضية رأي والكل ينشر عنها، ولكن لم يحصل أنه لا المحكمة الابتدائية ولا الاستئنافية قد عقدت أكثر من جلسة في أسبوع، وهذا دليل على تأثير الضغط الإعلامي اليوم في سير القضايا".
الحشد السياسي
وتشكل حالة الاصطفاف السياسي الذي تعيشه اليمن منذ عقود الرافد الرئيس لتداولات النشطاء ونتاجاتهم الرقمية، ولهذا أضحت مواقع التواصل ميدانهم السياسي البديل بعد أن صادر الحوثي على الجميع مقراتهم السياسية ومرافقهم الحزبية ونقاباتهم العمالية في ترجمة لأعراض التصدعات البينية التي أدمت علاقة مختلف القوى المدنية مع بعضها عقب توقف العملية السياسية وغلبة الآلة العسكرية.
ولهذا راح كل حزب يدفع بمناصريه للحشد ولتسويق فكرة معينة أو الرد على الآخر المختلف واتهامه بالتسبب في ما آلت إليه الحال بعد ثماني سنوات من الحرب كما يحدث، على سبيل المثال، مع حلول كل ذكرى لتاريخ اندلاع ما سمي بـ"الثورة الشبابية" في عام 2011 ضد نظام الرئيس السابق، علي عبدالله صالح.
عن التأثير الذي أحدثته، يقول رئيس جمعية الإنترنت اليمنية، فهمي الباحث، أن مواقع التواصل أصبحت عنصراً مؤثراً وفاعلاً بشكل مباشر في مختلف القضايا العامة والخاصة على السواء.
إذ يرى أنها "أصبحت قوة لا يستهان بها على رغم أننا في اليمن ما زلنا بعيدين عن المستوى المنشود في توحيد الجهود والآراء في مختلف الحملات أو الهاشتاقات على رغم ما أحدثته من أثر مباشر منذ الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011، والتي انطلقت أصلاً من خلالها حتى شكلت اليوم أداة ضغط أمام مختلف القضايا التي تتحول إلى قضايا رأي عام تدفع السلطات للاستجابة والتفاعل وكان دورها أكثر تأثيراً من الاعتصامات التقليدية في الساحات نظراً لوصول الكلمة للمتلقي بسرعة والتفاعل المباشر من الجمهور المحلي والدولي".
الغلبة لـ"فيسبوك"
يؤكد الباحث أن هناك نحو 2.30 مليون مستخدم نشط على مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن، وهو ما يشكل نسبة 7.9 في المئة من السكان، وبحسب دراسة أجرتها إحدى المؤسسات فإن 95 في المئة من مستخدمي الإنترنت تمكنوا من الحصول على معلوماتهم من السوشيال ميديا، يأتي موقع "فيسبوك" في المرتبة الأولى من حيث الاستخدام وتصل نسبة المستخدمين فيه إلى 98.7 في المئة، بينما يأتي استخدام اليمنيين لتطبيق "واتساب" بعد ذلك بنسبة تبلغ 92.7 في المئة، ثم موقع "تويتر" بـ 59 في المئة، يليه "تليغرام" بـ45.7 في المئة، و"يوتيوب" بـ38.3 في المئة، ومن ثم "إنستغرام" بـ34 في المئة.
ويقول التقرير إنه من إجمالي هذا العدد فإن نسبة الذكور الذين يستخدمون موقع "فيسبوك" تبلغ نسبة 83 في المئة، مقارنة مع نسبة النساء التي تصل إلى 17 في المئة، مع العلم أن الفئة العمرية لهؤلاء المستخدمين تبدأ من عمر 18 وتصل لعمر 24 سنة، وتعد تلك هي الفئة الكبيرة التي تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة في اليمن.
أين التواصل الاجتماعي؟
وفي خضم هذا الموج السياسي المتلاطم يبرز السؤال عن مكان "التواصل الاجتماعي" في تلك الوسائل التي سميت باسمه واهتمامات النشطاء بتلك القضايا خصوصاً، واليمنيون يواجهون جملة من الأزمات الاجتماعية ومنها الأوضاع الصعبة التي يعيشونها، لعل من أهمها حملات التكافل الاجتماعي في ظل الظروف المأسوية في البلاد، والقضايا الحقوقية والانتهاكات الإنسانية كقضايا الطفولة وحقوق المرأة والميراث، التي أصبحت متداولة بفضل مواقع التواصل الأمر الذي من صوتها أخيراً.
تقول الباحثة والناشطة المجتمعية، شذى نعمان، إن العالم الافتراضي هو الوسيلة الأنجح لكشف مختلف الانتهاكات الاجتماعية سواءً القائمة على الدوافع السياسية أو النوع الاجتماعي أو العرقي وغيرها، وخصوصاً تلك التي تطال الفئات المهمشة أو الصامتة في المجتمع أو الأطفال.
وتضيف نعمان أن الحملات الإغاثية والإنسانية التي ينفذونها صحبة عديد من الجهات الداعمة للمشاريع الخيرية كانت مواقع التواصل وسيلتها الأبرز للتواصل مع الضحايا والوصول إلى المستفيدين بعد أن أسهمت الحرب في تقطيع أوصال المناطق اليمنية وباعدت بينها. ولهذا فالمناصرة المجتمعية سواء تلك التي تأتي من المجتمع أو من المساهمين والمؤسسات الخيرية والداعمة "لم نكن لنجد هذا التفاعل لولا مواقع التواصل التي كانت وسيلة التعريف والتفاعل المباشر مع القضايا الاجتماعية كافة".
حجب ومشكلات
ومع الإقبال المتنامي على مواقع التواصل، إلا أن شكاوى اليمنيين لا تكاد تتوقف جراء سوء خدمات الشبكات وضعفها وانقطاعها الذي قد يستمر لأيام، وتعلل وزارة الاتصال التابعة للحكومة الشرعية ذلك للانقطاعات المستمرة في كابلات الألياف الضوئية الدولية في البحر.
كما ضاعف من مشكلات اليمنيين، قيام الحوثيين بحجب معظم المواقع الإخبارية، حيث يفيد تقرير "KeepItOn" المعني بمتابعة المواقع المحجوبة لسنة 2019 أن اليمن قد حاز أكبر نصيب من حيث عدد عمليات حجب الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط، وقد زاد تدهور الوضع أكثر عندما قتل الحوثيون الرئيس السابق علي عبدالله صالح في سنة 2017، وبذلك ارتفع عدد عمليات تعطيل الشبكة مصحوبة بسلسلة من عمليات حجب وخنق الإنترنت التي يصعب إسنادها لطرف معين.
وتبرر جماعة الحوثي خنقها وسائل التواصل بحماية أنصارها من "تأثير إعلام العدو" على حد وصفهم، في وقت تجند فيه كل مقدرات مناطق سيطرتها للحرب التي رفضوا مبادرات إيقافها حتى الآن.
وإلى أن تضع الحرب أوزارها، سيعيش اليمنيون في عالمهم الافتراضي الصاخب، يطالبون دائماً بتحسين خدمات الإنترنت ليواصلوا هوايتهم في الجدل السياسي المحتدم والفتوى في كل شيء دون أن يمنعهم ذلك من بث همومهم بفعل الحرب التي طالت وطأتها دون أن يعرفوا لنهايتها مدى.