عبد العزيز المقالح أحد أقمار اليمن في العصر الحديث، بل هو أبرزها وأكثرها حضورا في قلوب وعقول أجيال يمنية توالت من الشعراء والمثقفين والسياسيين والثوار.
كنت واحدا من جيل الشعر التسعيني في اليمن الذين غمرهم المقالح برعايته وقلمه وقرائته؛ وعن تجربة، لاحظت كم أن الرجل الكبير شعرا وثقافة وقيمة كان حنونا بجيلنا وأجيال قبلنا عن قصد ومحبة، وليس لأي سبب آخر؛ فقد كتب المقالح مئات وربما أكثر من التوطئات والمقدمات لروايات ومجموعات شعرية وكتب تراثية ونقدية غير عابئ بكل تلك الأصوات التي كانت ترتفع عاليا منتقدة أسلوبه في تقديم الجميع، وكان المقالح على صواب دائما فكثير من الأسماء التي قدمها وشجعها شكلت علامات مهمة في مسيرة الشعر اليمني.
كان الشاعران الكبيران عبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني نجمين يمنيين في سماء الشعر والثقافة العربية، اقترن اسم اليمن بهما في عصرنا الحالي، ولن تجد اسما غير اسميهما يعرفه العالم العربي والعالم إن تحدثت عن الرموز اليمنية، ورغم أن شهرة البردوني كشاعر تقدمت المقالح في فترات سابقة بسبب خصوصية البردوني الشعرية والشخصية، فإن المقالح كان أحد رواد القصيدة الحديثة في زمن مجايليه صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي وغيرهم، كما كان البردوني رائدا من رواد الكلاسيكية الحديثة في الشعر العربي.
ورغم أنهما من مدرستين شعريتين مختلفين، فإن المقالح أنكر على من وصف ذلك بالخلاف، ووصف ذلك بالاختلاف في مدرستين شعريتين قائلا إن علاقته بالبردوني التي بدأت عام 1957 استمرت كعلاقة صداقة متينة، لدرجة أنهما كانا يقرآن الكتب ثم يتناقشان حولها، معبرا عن سعادته كونه أحد دارسي تجربة البردوني الشعرية وكتابته مقدمات لبعض كتبه.
تجربة المقالح الشعرية والفكرية الغنية التي بدأت بإصداره مجموعة "لا بد من صنعاء" عام 1972 استمرت لتشكل 23 مجموعة شعرية انتهت بمجموعته الأخيرة "يوتيوبيا وقصائد للشمس والمطر" التي صدرت عام 2020، والملاحَظ أن المقالح هو الشاعر العربي الذي تميز بالاستمرار والمثابرة على الكتابة رغم تقدمه في العمر؛ فقد كان يدهشنا في كل مرحلة من مراحله الشعرية بتجربة جديدة فيها الصوفي والوطني والفلسفي والمكاني -من "أبجدية الروح"، إلى "كتاب القرية"، و"كتاب الأصدقاء"، و"كتاب الحب"، و"بالقرب من حدائق طاغور"- فهو لم يتوقف عن كتابة الشعر والأمر كذلك بالنسبة لإصداراته الأدبية والفكرية التي بلغت 33 كتابا في النقد والتراث والتاريخ والأدب الشعبي، ابتداء من كتابه "شعر العامية في اليمن" الذي صدر عام 1972، ومرورا بـ"أزمة القصيدة العربية"، و"الزبيري ضمير الوطن الثقافي"، و"زيد الموشكي شاعرا وشهيدا"، و"عبد الناصر واليمن: فصول من تاريخ الثورة اليمنية"، و"ثرثرات في شتاء الأدب العربي"، و"علي أحمد باكثير رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر"، وانتهاء بآخر كتبه "ذكرياتي عن خمس وعشرين مدينة عربية".
لقد كان الدكتور المقالح استثنائيا في كل شيء في مشروعه الشعري والثقافي والفكري والشخصي والمؤسسي، ومن النادر أن تجد شاعرا أو مثقفا في انضباطه ووفائه لمشروع التأليف والثقافة، وفي الوقت ذاته اهتمامه بتأسيس علاقاته الشخصية وتخصيصه وقتا كافيا للقاءات الثقافية في منزله أو منازل أصدقائه ومعطيا الأهمية للقاءاته بالشعراء والأدباء والكتابة عنهم وقراءة إنتاجهم .
أما رئاسته لمركز الدراسات والبحوث التي ظل فيه حتى آخر أيام حياته وقبلها رئاسته أهم صرح تعليمي وثقافي في اليمن وهو جامعة صنعاء، فقد كانت علامة مضيئة وفارقة في تاريخ التعليم الجامعي؛ إذ استطاع أن يستقدم أكبر الأسماء الأكاديمية والثقافية في العالم العربي للتدريس والعمل في الجامعة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة من عمر المقالح الثائر -الذي كان أحد مناضلي ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962- انكسارا ووجعا باعتباره صوت الثورة والجمهورية في اليمن وقلمها، إذ رأى بعينيه أحلام الثورة والجمهورية في اليمن وهي توأد، وقلاعها وهي تتهاوى، وشاهد فجر الثورة اليمنية صنعاء وهي تسقط في براثن انقلاب 2014، في وضع لا يشبه أحلام الثوار الأوائل ولا حلم أجيال سبتمبر/أيلول اللاحقة، ولا شك أن ذلك فجّر في قلب الشاعر الكبير أمطارا من الحزن والألم عبر عنها في عشرات القصائد المنكسرة والحزينة التي كان من أبرزها قصيدته أعلنت اليأس التي كتبها قبل 4 سنوات من رحيله:
أنا هالك حتما
فما الداعي إلى تأجيل موتي
جسدي يشيخ
ومثله لغتي وصوتي
ذهب الذين أحبهم
وفقدت أسئلتي ووقتي
أنا سائر وسط القبور
أفر من صمتي
لصمتي.
لقد عبّر المقالح عن حزنه ووجعه مما آلت إليه حال اليمن واليمنيين، فذهب يرسم المشهد، وكأنه كتب مشهده الأخير في قصائده الأخيرة:
دثّريني
دعيني أعانق في شغفٍ صحوة الأبدية
أرحل عن وطنٍ بائس الأمس واليوم
فيه تموت العصافير جوعا وتسمن فيه الذئاب
وما كتبته يدي ليس إلاّ صدى شجنٍ حارقٍ
وبكاءٍ من الكلمات
على بلدٍ كنت أحسبه بلدًا
وعلى أمةٍ كنت أحسبها أمةً
ظِلُها كان يمتد من ماءِ تطوان
حتى سماءِ الخليجْ.
وبعيدا عن سيرة الحرب التي هددت كل مكامن الجمال في اليمن الجريح، وبينها المقالح الذي وجد نفسه محاصرا بقبح الحرب وخيباتها، فقد ظل الشاعر الكبير محافظا على هدوئه وتأملاته وصوفيته وإنجازه الثقافي والشعري وانحيازه لقيم الوطن وحبه للشعر وللناس وللبلاد التي أدمنها وأدمن صباحاتها ومساءاتها ومجالسها الخاصة ونوافذها وأسواقها وأحجارها، وكتب لها وعنها تارة محبا وتارة معاتبا أصحابه الطيبين وأعداءه الفقراء إلى الحب، ولم ينس -مع كل ذلك- أن يسطر ابتهالاته إلى الله:
أن يمنح القلب شيئا من الضوء
شيئا من الصلوات تطهّر هذا الكيان العتيق
وتغسل عنه سواد الخطيئة
تغسله من بقايا الجنون
ومن موجات الحريق