نشرت مجلة “فورين بوليسي” تقريرا عن الحرب اليمنية الموازية على الإنترنت أعده روبرت موغا، المدير في مجموعة “سيك ديف” والمؤسس المشارك لـ “معهد إغرابي”، وقال فيه إن الحرب الأهلية اليمنية المروعة يوازيها نزاع على فضاء المعلومات- الإعلام الرقمي والتقليدي بل وحتى الإنترنت نفسها.
وفي وسط أسوأ كارثة إنسانية في العالم التي أدت لمقتل أكثر من 377.000 شخص وأجبرت 4 ملايين على الفرار من منازلهم، فهناك وباء في المعلومات على الإنترنت ويشمل التضليل المعلوماتي ومعلومات خاطئة وخطاب كراهية وتطرف مما يؤكد أن الثقة تبددت بين الأطراف بعد 7 أعوام من الحرب. ولا يمنع الضرر الرقمي جهود تخفيف صدمة كوفيد-19 وانتشاره في البلاد ولكنه يعمق العداوة بين اليمنيين ويقضي على فرص تحقيق سلام وتسوية سلمية للنزاع.
ويضيف أن الحرب في اليمن هي النزاع الذي يريد كل واحد تجاهله. واندلعت الحرب عام 2014 وتوسعت لتصبح حربا بالوكالة بعد سيطرة المتمردين الحوثيين على العاصمة صنعاء عام 2014. وبعدما أجبر الحوثيون الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته على الاستقالة، قام تحالف من دول الخليج قادته السعودية والإمارات بالتدخل نيابة عنه في عام 2015. وشن التحالف حملة قصف جوي لا رحمة فيها وفرض حصارا اقتصاديا.
وفشلت كل محاولات التسوية بين الجانب الحوثي والسعودية لرغبة كل طرف تحقيق النصر النهائي. وزاد الحوثيون من حملتهم غير المنظمة ضد السعودية عبر استهدافها بالصواريخ والمسيرات والألغام البحرية التي قدمتها إيران لهم، وذلك في محاولة لعرقلة إنتاج النفط وتصديره. وليس غريبا تحول الفوضى في اليمن إلى منطقة جذب للمتطرفين. والبلد ليس غريبا على الإرهاب، فقد نفذ وخطط لتفجير المدمرة الأمريكية “كول” التي توقفت للتزود بالوقود قبالة السواحل اليمنية عام 2000 وأدى الهجوم إلى مقتل 17 من جنود البحرية الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت عززت الكثير من الجماعات التي تتراوح من تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وتنظيم الدولة الإسلامية إلى كيانات شيعية مثل حزب الله من وجودها في البلد بما في ذلك على الفضاء الإلكتروني. ومن جانبها شنت الولايات المتحدة مئات الغارات الجوية على اليمن منذ 2011، مع أن أنها علقت التشارك الأمني واللوجيستي وبيع الأسلحة للسعودية في عام 2021. وفي الوقت نفسه اندلعت حرب للسيطرة على اليمن، ولكنها تدور على الفضاء الإلكتروني.
ففي بداية النزاع سيطر الحوثيون على “دوت يي” وهو المجال الذي تستخدمه مواقع الإنترنت اليمنية بدلا من “دوت كوم”. وسيطروا على المزود المحلي لخدمة الإنترنت “يمن نت” من أجل رصد المحتوى وإدارة المواقع الوطنية على الإنترنت. ومع مرور الوقت قام الحوثيون بالحد من استخدام الإنترنت وراقبوا المواقع وشوشوا على استخدام منصات التواصل بما فيها تويتر وفيسبوك ويوتيوب. وأشرفوا أيضا على حملة تأثير بهدف تعبئة الدعم الدولي ضد الهجمات السعودية والغارات الأمريكية وما قالوا إنها المؤامرة السعودية- الأمريكية- الإسرائيلية ضدهم. ووصفها المستخدمون بـ “الحرب الناعمة” حيث أطلقت المنصات المؤيدة للحوثيين أفلاما وثائقية وقصصا إعلامية ورسوما كاريكاتيرية للحصول على دعم الرأي العام. وللتحايل على المحاولات الأجنبية لتعطيل جهودهم الدعائية سيطر الحوثيون على الكوابل تحت البحر وبدأوا بالبحث عن عملة سيبرانية لتمويل عملاتهم.
ويعلق الكاتب أن الجهود للسيطرة على الفضاء المعلوماتي في اليمن قوت من قضية الحوثيين في الخارج وعززت من شرعيتهم في الداخل. وبات اليمنيون الذي يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين أكثر ميلا اليوم لتصديق المؤسسات الإعلامية التابعة لهم والوثوق ببيانات وتصريحات السلطات الحوثية، حتى لو كانت كاذبة بشكل واضح.
وفي دراسة مسحية أجراها دي تي غلوبال في العام الماضي وجد أن السكان في المناطق الحوثية يتعاملون بثقة مع تقارير وأخبار قناة “المسيرة” الرسمية، وأكثر من أي قناة أخرى رغم منعها في عدد من الدول. وكذلك أظهرت دراسة مسحية في بداية عام 2020 أن نسبة 80% من السكان الذين يعيشون في مناطق الحوثيين يثقون بقادتهم المحليين مقارنة مع ربع السكان في مناطق الحكومة الذين يثقون بها، وهو ما يعني أن استثمار الحوثيين في الحملات الدعائية آتى أكله.
وردت حكومة هادي على التحركات الحوثية بإنشاء مزودها الخاص عام 2018 وهو “عدن نت” وفي محاولة منها لسحب البساط من “يمن نت”. وتعمل من السعودية عبر أجهزة التوجيه هواوي ومستقلة عن الكوابل البحرية في اليمن. ووعدت “عدن نت” بتوفير تغطية سريعة عبر شبكة الألياف البصرية “فايبر أوبتكس”، ووجدت الشركة زبائن مستعدين لاستقبال خدماتها بعد زيادة أسعار يمن نت، إلا أن المشاركة لا تزال محدودة. ومثل منافستها، لا تقدم عدن نت أي تفاصيل حول الخصوصية أو شروط الخدمة مما أثار مخاوف المشاركين المحتملين. وهذا يفسر زيادة الاعتماد على الشبكات الافتراضية من قبل المستخدمين اليمنيين للتكنولوجيا والذين يبحثون عن طرق للتحايل على التدخل في الخصوصية وانقطاع خدمة الإنترنت المتكررة.
ويعلق الكاتب أن التنافس للسيطرة على قطاع الاتصالات والمعلومات أدى إلى تسميم الفضاء الإعلامي التقليدي ومنصات التواصل. وتعاني الشبكات الإخبارية اليمنية من الاستقطاب الحاد. وبات معظم السكان الذين يعيشون خارج مناطق الحوثيين يشكون في هدف وصدق المؤسسات الإعلامية المحلية. وأظهرت الأبحاث التي قامت بها دي تي غلوبال ومنظمة حقوق الإنسان أرك أن معظم اليمنيين يشكون بمحطات التلفزة والإذاعة والصحافة المطبوعة التي يعتقدون أنها لا تقدم الصورة الحقيقية للوضع الأمني والمفاوضات السياسية والاقتصاد في البلاد. ولا يثق الكثيرون بتغطية الإعلام المحلي لكوفيد-19 مما أدى لانتشار نظريات المؤامرة عن الفيروس واللقاحات. وفي المقابل يصدق الكثيرون المعلومات التي يقدمها المسؤولون الحوثيون عن الفيروس رغم عدم صحتها.
وكما نعرف الآن فالتواصل مع الأخبار الزائفة يعتبر عاملا معطلا في الأوضاع المستقرة، فما بالك في محاور الحرب، فأثره سيكون قاتلا. فالحصول على معلومات موثوقة مهم لتجنب المواجهات العنيفة والحصول على الدعم وبناء مصالحة سياسية. ويعتبر الهجوم على الإعلام المستقل تكتيكا معروفا في محاور النزاع، لكنه في اليمن اتخذ مستوى جديدا. ففي السنوات الأولى من الحرب الأهلية، وصف المتمردون الحوثيون العاملين في الإعلام بأنهم يمثلون “خطرا عظيما” أكثر من القوات المسلحة التي يخوضون معارك معها. والهدف من هذا الهجوم هو محاولة أطراف النزاع احتكار الرواية عن النزاع. فمن خلال الحد والتشهير بمزودي الأخبار الدوليين والمحليين فإن الجماعات المعارضة تتمكن من إبقاء السكان في الظلام وتعريضهم لعمليات التأثير. ولهذا سيطر الحوثيون على الفضاء الافتراضي والإعلام التقليدي لنشر دعايتهم في المناطق الخاضعة لهم. كما كانت منصات التواصل الاجتماعي جبهة حيوية ومهمة في معارك السيطرة على الفضاء في القرن الحادي والعشرين. ولدى اليمن حوالي 3.2 مليون مستخدم لمنابر التواصل، أي نسبة 10% من السكان. ويستخدم ثلثا هذا العدد فيسبوك ونسبة 24% تستخدم بشكل منتظم يوتيوب فيما تستخدم نسبة أقل تويتر.
وأشار الكاتب إلى الحملات لشيطنة أطراف معينة في النزاع وأنها زادت وتحولت إلى هجمات على عدد من الجماعات الاجتماعية. ولم يوثق الباحثون محاولات اختراق لجماعات واتساب ولكن زيادة في الخطاب العدواني التشهيري الذي يستهدف الملحدين والبهائيين واليهود وغيرهم. واستغلت الجماعات المتطرفة الاستقطاب والتشرذم في المناخ الرقمي اليمني لبناء صورة وتأثير لهم. وقدر باحث أن نسبة 50% من التغريدات التي من المفترض أنها نابعة من القاعدة في شبه الجزيرة العربية تحاول لفت النظر لدور التنظيم في المجال الاجتماعي. وهي محاولة منه لتقديم بديل عن حكومة هادي الضعيفة. ومنذ تصنيف الولايات المتحدة حركة الحوثيين كإرهابية في عام 2021 زاد الخطاب المعادي لها، لكن حجم وأصل خطاب الكراهية ليس واضحا بالكامل.
وأشار الكاتب إلى أن اليمن برز كساحة فحص للجهود الإنسانية من أجل تقوية النظافة الرقمية والحد من الضرر وسط الحرب الأهلية. وقدمت منظمة يونسكو التابعة للأمم المتحدة الدعم لمنظمة “دكة” لمواجهة خطاب الكراهية ودعم الوحدة. كما تدعم الجمعية الإعلامية للسلام وتدريب الصحافيين على مواجهة حملات التضليل. وأشار الكاتب إلى مجموعة سيك ديف ومؤسسة سيك ديف اللتين أسهم في إنشائهما واللتين تعملان مع الجماعات المحلية للكشف عن الطريقة التي يستخدم فيها الفضاء الرقمي لنشر الضرر. وكذا استخدام وسائل لوقف وعرقلة نشر التضليل والمعلومات الخاطئة في اليمن. وهي أمثلة تشبه سلامة تيك المنبر الذي أعلن عنه عام 2012 لتزويد عمال الخطوط الأمامية في سوريا، بما فيها جماعات الشباب والمرأة بطرق للرقابة الرقمية الآمنة ووسائل لمعالجة الوضع على أرض الواقع.
ومع أن هذه المبادرات قد لا تحل مشاكل الفضاء الرقمي لكنها قد تسهم بتوفير المعلومات الدقيقة للمجتمعات المتأثرة بحملات التضليل والدعاية. والوصول إلى الصحافيين الذي يتمتعون بمصداقية وشبكات الأخبار التي تقدم المعلومات الصحيحة يمكن أن يحسن العمل الإنساني عبر حملات اتصالات مستهدفة وتوسيع الخدمات لمن هم عرضة للحملات وتسهم في الحوار السلمي.
ويقول الكاتب إنه من حسن الحظ فإن الجيل اليمني البارع في استخدام التكنولوجيا الجديدة يقود المهمة في مواجهة الضرر الناجم عن الحملات الضارة. ويستفيد الشباب اليمني من انستغرام وتويتر وتيك توك لتسليط الضوء على الأزمة. ويقوم بعض المستخدمين بنسخ الأرقام والحقائق الثابتة حول النزاع المسلح وتحويلها إلى مقاطع فيديو تصل إلى مئات الآلاف من المشاهدين. ويمكن لجهودهم والدعم الخارجي لهم تعزيز شبكات يمكن الثقة بها وتحصن المستخدمين من عمليات التأثير الضارة والتي تقوم بإشعال المظالم المحلية وإطالة النزاع.