[ احمد الشلفي مع الكاتبة رغدة جمال ]
يطمح الشاعر والصحافي اليمني، أحمد الشلفي، أن يكون كتابه "الرحيل عن الجنة"، الذي صدر مؤخراً عن دار 'روزا' للنشر في 'الدوحة'، بداية لرحلة سرد وكتابة ضمن 'ثلاثية' بدايتها 'الرحيل عن الجنة'، لها كتاب ثانٍ وثالثٌ يسلك فيه الكاتب نفس النهج والأدوات، لتقديم "رسائل وحكايات عن الحبّ في خربشاته الأولى، وعن الروح في تعبها وألقها ورحيلها وتشردها منذ البدء".
وفي هذا الحوار، الذي أجرته معه الكاتبة والصحفية اليمنية رغدة جمال في العاصمة القطرية (الدوحة)، يذكر الشلفي أنه وثّق رحلته الشخصية بالطريقة التي ظهرت في الكتاب، توخيا للموضوعية والأمانة.
وفي ظل الجدل حول تسميتها 'سيرة ذاتية' أو' سرد' أو 'مقالات' أو 'توثيق'، يرى الشلفي أن المهم بالنسبة له أنه مؤلّف بوحدة موضوعية قصتها شخص عاش فترة في بلد أحبه، وهو ما أشار إليه في مقدّمة الكتاب.
حاورته: رغدة جمال - الدوحة
* لم يتم توثيق ثورة الحادي عشر من فبراير/شباط بشكل يليق بها.. فهل تعتبر 'الرحيل عن الجنة' توثيق لتلك الحقبة الزمنية؟
** ثورة فبراير اليمنية الشعبية السلمية 2011م، ضد نظام الرئيس علي عبدالله صالح، هي أعمق من أن توثق في كتاب واحد، أو في جزء من كتاب، لكنني ربما كنت من القلائل، وربما من الأوائل الذين ساهموا بكتابة جزء من تجربتهم في تلك المرحلة القريبة كإعلامي غطى الثورة في ميدانها، وأحداثها، لأهم قناة عربية، وهي 'الجزيرة'، كانت تتابع 'الربيع العربي' في كل قُطر ودولة.
أزعم أنها مرحلة شديدة التأثير، وتستحق منا جميعا الالتفات، والانتباه. والكتاب، وإن حمل عنوانا رمزيا للرحيل عن اليمن، إلا أنني حرصت على أن أسلسل الأحداث بشكل سردي يفهم منها القارئ كيف سارت الأوضاع في اليمن حتى ثورة فبراير .. صحيح أن كتابا لا يستطيع قول كل شيء، ولكنني رأيته الأسلوب الأمثل لرواية القصة بشكل بسيط، لمن أراد، لكنها ليست القصة كاملة.
أسعى لمشروع تدوين أكبر يوثق قصة ثورتنا اليمنية الوليدة عبر صانعيها ورموزها، وهم كُثر، ولازالت الثورة مستمرة.
* انشغلت عن الكتابة بالتغطية الإخبارية لفترة طويلة، ثم عدت للكتابة السردية من خلال مجموعة مقالات 'الرحيل عن الجنة'، فلماذا الآن تحديدا؟
** أولا أرد عليك القول "إنها مجموعة مقالات"، فهي ليست كذلك، هذا كتاب خططت له منذ فترة، ولكني اخترت أن أكتبه أولا للجمهور في "فيس بوك"، وفي الصحافة المحلية، لسببين، الأول; أنني كنت بحاجة إلى أن يقرأ الفاعلون الحقيقيون الذين وردت أسماؤهم في الكتاب ما كتبت، ويساهموا في التدوين، والرد، والتصحيح إذا سقطت مني معلومة، وقد حدث هذا فعلا. فخلال نشري لحلقات الكتاب في مايو الماضي وجدت الكثير من التعقيبات، سواء ممن ذُكرت أسماؤهم في الكتاب، أو من المهتمين، وقمت - باحترام -
بالتعامل مع جميعها. أما السبب الثاني فهو: الحفاظ على استمرارية الكتابة، والالتزام بها، لإنجاز المشروع، وقدحقق السببان ما أريد.
طبعا نحن مأسورون للأسلوب في التأليف، وقد تغيّر الوضع في زمن ال'سوشل ميديا'، وأساليب التحقق والترجمة، ولم يعد ما كان مألوفا ينطبق على ما نحن عليه الآن.
بالنسبة لي لم أهجر الكتابة يوما. وفي عام 2012 كتبت في مقدمة مجموعتي الشعرية "يد غافلته نثرية" بعنوان "أوبة الشاعر"، تطرقت فيها لأوبتي لمحراب الكتابة، والشعر، بعد هجر طويل، واعترف أن الأخبار نالت من روح الشاعر قليلا، غير أن الشعر والكتابة لا يموتان في قلب عاشق.
لكن ما لاحظته، خلال سنوات عملي كمراسل ميداني أو كصحفي في غرفة الأخبار لمدة ستة عشرعاما، أنه وإن سرقتك من مضمارك وطريقك، فإنها تجربة إضافية قد تلهيك، لكنها تثريك بالكثير من التفاصيل. وها أنا أحاول أن أعود من جديد.
* الرحيل عن "وليس من الجنة"... هو اعتراف عن الاضطرار إلى النجاة، لكن أيعني هذا العودة إلى 'هدى اليمن' يوما ما، أم الاستمرار في ضلالة إجبارية عنها؟
** بلدك حيث ولدت، ورضعت رشفة حليب أمك الأولى، هي جنتك، والرحيل عنها كان إجباريا، لم أفكر في أي لحظة أن أغادر وطني، لكنه كان إجباريا لا اضطراريا، حتى عندما قررت نقل عملي إلى مقر عملي في الدوحة بإرادتي، في أبريل 2014، عندما شعرت بخطر حقيقي فقد كان القصد أن أعود بين الحين والآخر إلى اليمن، لكن الحرب كانت أكبر من تأويلاتنا وتصوراتنا.
عندما وضعت عنوان الكتاب كان أمامي مجموعة عناوين، من بينها 'الهروب من الجنة'، 'الرحيل من الجنة'، وعناوين أخرى. لكنني استقريت على عنوان 'الرحيل عن الجنة'، لأن الرحيل عنها يعني أنني سأعود إليها مجددا، وهذا ما سيحدث.
أما الخروج منها فهو تأشيرة خروج نهائية، وهذا ما لن يحدث، لأنها بلدي، ولم أكن سائحا أو زائرا من بلد مجاور، كما يريد لنا حكام اليمن الجدد، ومحتلوه.
فهو وطن واحد، كمايقول 'رسول حمزاتوف'
”نجوم كثيرة .. وقمر واحد، نساء كثيرات .. وأم واحدة، بلدان كثيرة .. ووطن واحد”
اليمن الكبير هو الهدى والضلال، ما فعله اللصوص الجدد الذين سنحت لهم الفرصة لتخريب هذا الجمال العظيم.
رحلنا ولكن سنعود.
بالمناسبة اخترت عنوان 'الكتاب الرحيل عن الجنة' في الأساس، لأنه كان تعبيرا عن الرحيل الأول من أحضان قريتي الصغيرة وحضن أمي إلى المدينة، وكان رحيلا إجباريا، ثم تعددت أسباب الرحيل حتى كان ختامها الرحيل عن وطن، كما سردت في الكتاب.
* المقالات الأولى لرحيلك عن الجنة؛ كانت أشبه برسائل شخصية جدا لمن يحتلون جزءا من القلب.. لمن كنت تكتب؟
** كما أسلفت ليست مقالات هي رحلة شخصية وثقتها على هذا النحو، توخيا للموضوعية والأمانة. وقد قلت أكثر من مرة، وفي مقدمة الكتاب، إن هناك جدلا حول تسميتها 'سيرة ذاتية' أوسرد أو مقالات أو توثيق، والمهم أنه مؤلف بوحدة موضوعية قصتها شخص عاش فترة في بلد أحبه، كما أشرت في بداية الكتاب.
والحقيقة أننا لسنا بصدد تعريف الكتاب الآن، وتشخيص هويته، لكن أزعم أنني قدمت رؤية في شكل سردي عن مراحل مهمة عاشتها اليمن.
أما لمن كنت أكتب فقد كنت أكتب لذاتي، التي تشبه الكثيرين في بلدي، لربما شعرت وأنا أروي قصتي أنني أتحدث نيابة عن الكثيرين، وقد قال لي بعض من القراء والأصدقاء إنني رويت حكايتهم.
فحكاياتنا هي قصص الآخرين التي لم تروَ.
كنت وحيدا، وأنا أكتب هذا الجزء، وأخطط لجزء ثانٍ، قد يكون رسائل وحكايات عن الروح في تعبها، وألقها، ورحيلها، وتشردها، منذ البدء، سأبحث عن المعنى.
أنا لست مسكونا بهاجس المكنونات، لأنني خليط من شاعر وصحفي مسيّس، وهذي عقدة أوجدتها بنفسي، وعليّ فك طلاسمها.
لربما وأنا أخطط لجزء ثانٍ أن أكتب عن 'الحب في خربشاته الأولى'، وعن عالم جميل، وهنا سيكون التحدّي.
* في العادة، يشكو الأدباء من القراءة التلصصية للنص، وهي التي تبحث عن مكنونات الكاتب بدلا عن النص.. ألم تخشَ تقديم أحمد الشلفي بهذه الشفافية للمحاكمة أمام مقصلة القارئ المتلصص؟
** وراء كل نص، ووراء كل بوح، قراءة متلصصة، وقد فكرت منذ بدأت هذا البوح بوعي: كيف ستكون ردة فعل القراء أو المتلصصين، فوجدت أنه من المناسب الاستمرار في الكتابة، وتحقيق الهدف منها، لأنني لا أكتب لمن سيقرأ اليوم، ولكن أكتب للقُراء في كل زمان ومكان. فسيأتي جيل بعدنا يبحث عن هذه التواريخ، وعن سيرة من عايشوها، كما فعلنا نحن وما زلنا نفعل. التدوين وخاصة تدوين الكتب يجب أن يكون عملية إدراكية متمنعة على أسئلة النّقد، متعالية على التلصص، لأنه مسألة تتعلق بالمسؤولية، والتقييم غير مهم الآن، ما يهم هو الإنجاز.
بقي أن أقول إنني فعلا فكرت أن 'الشخصي' في كتابي هو قصة كل واحد منا، فلم أجد حرجا من الشفافيه، لأن قصصنا يجب أن تروى بغضّ النظر عمن نكون؟
* ضمن تجربة السرد الشخصية، كنت متسامحا مع من مثّل عثرة في طريقك، إلا أن منسوب التسامح قلّ مع من كان عثرة في طريق نصرة الثورة... فهل هذا يعني أننا نستطيع الغفران فيما يتعلق بالخسارة الشخصية، لكن خسارة الوطن أعظم من أن نغفر فيها؟
** لم أكن معنيا برد الصفعات في هذا الكتاب، بل كنت معنيا بإنجاز كتاب يوثّق مراحل في حياتي، وحياة اليمنيين. والأسماء التي وردت هي جزء من القصة، ولا تستحق العقاب منّي أو من غيري.
وقد تذكرت الآن ما قاله 'كافكا' [الحياة حرب، حربٌ مع نفسك، حرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف]
لكن التسامح قيمة مهمة لمن أراد أن ينجز، فماذا سيستفيد الباحث أو القارئ من صب لعناتي عليهم سوى الشعور بالنقمة، التزمت فكرة واحدة في بناء الكتاب وهي 'الموثوقية والعدالة'. حتى عندما تناولت سيرة النظام، وعلي عبدالله صالح وثورة فبراير 2011 تخففت من وزر الثائر، والمسيس، والعدالة مهمة لمن أراد أن يوثق للتاريخ وللناس.
* هل تعتبر 'الرحيل عن الجنة' محطة ختامية لذكرى رحلة ما، أم هي محطة البداية لسرد رحلة مازال في جعبتها الكثير؟
** لا .. ليس محطة ختامية، بل هو نقطة بداية لرحلة سرد وكتابة أطمح أن تكون 'ثلاثية'، بدايتها 'الرحيل عن الجنة'، لها كتاب ثان وثالث يسلك نفس النهج والأدوات، لكن كل جزء يحمل فكرة مختلفة، وإن بدا في نفس السياق.
تحدثت كثيرا عن أحمد الإنسان، أحمد الصحفي، وأحمد الثائر... من منهم كاتب 'الرحيل عن الجنة'؟
سيجيبك الشاعر من مقطع في قصيدتي ذاهلا عن نفسه:
ولد يحدق في الظلام
تبعته لأرى يديه
النار تلمع في يديه
وخلفه جمع كثير
الذاهلون من الخراب
الذاهبون إلى الحقيقة
في الطفولة.. كان أحمد ذاهلا
عن نفسه..
وفي البراءة ..
كان أحمد ذاهلا عن قلبه
غارقا في البوح حد الموت.
وفي زمان ..
كان أحمد ذاهلا عن كل شيء
إلا الضياء..