[ الصورة لامرأة في الشيخ عثمان بعدن في أربعينيات القرن الماضي ]
مع تسليمنا أن الاستكشاف والترحال في الشرق والكتابة عنه لا يمكن أن يكون بالضرورة -ودائما- مرادفا للتجسس والاستخبارات، فلا شك أن المؤسسات الاستعمارية الغربية قد سعت بذكاء، ومنذ زمن بعيد إلى توظيف الرحالة والمغامرين والأدباء في جمع معلومات دقيقة عن الشعوب والبلدان والأراضي التي قررت الهيمنة عليها في مختلف أرجاء المعمورة. لهذا من الطبيعي أن تنشأ علاقة متينة بين الأدب والنصوص الثقافية التي كتبها هؤلاء الرحالة والأدباء من جهة، وبين دوائر الاستخبارات الاستعمارية منذ القرن التاسع عشرن، لاسيما في نصفه الثاني حينما قررت الدول الغربية، وفي مقدمتها الإمبراطورية البريطانية، الاستيلاء على أراضي الامبراطورية العثمانية، أو الرجل المريض.
وليس سراً أن الدول الغربية قد عملت –ولا تزال تعمل- على خلق مؤسسات علمية أو شبه علمية، مثل الجمعية الجغرافية الملكية، تساعدها على تحفيز العلماء والمغامرين والباحثين – بمن فيهم نحن المحليون، المغضوب على جيوبنا -على السفر إلى بقاع خطرة تحت مظلة الاستكشاف والعلم والمغامرة، وهو ما يتيح لها التعامل مع هؤلاء العملاء العلماء بطرق لا يحكمها أي قانون غير المصالح العليا للإمبراطورية.
ومن المعلوم أن إدوارد سعيد قد تناول في كتابه (الاستشراق، المعرفة السلطة الإنشاء) بشكل ضافٍ الكيفية التي استخدمتها الدول الغربية في توظيف بعض هؤلاء الرحالة والمغامرين والأدباء في جمع المعلومات عن الشرق. وظهرت مؤخرا كتابات أخرى تتحدث عن الدور الكبير الذي قام به المستكشفون في العمل الاستخباراتي البريطاني والغربي بشكل عام منذ القرن التاسع عشر؛ منها كتاب الهندية بليا ساتيا (Spies in Arabia: The Great War and the Cultural Foundations of Britain’s Covert Empire in the Middle East
2008)، والبحث الذي نشره جيمس كانتون سنة 2009 في مجلة (The Journal of Imperial and Commonwealth History) بعنوان: (Imperial Eyes: Imperial Spies. British Travel and Espionage in Southern Arabia, 1891–1946). وكتابي (اليمن في كتابات فريا ستارك، من الاستكشاف إلى الاستخبارات)، الذي تحصل على جائزة أفضل كتاب في العلوم الإنسانية لعام 2014 من مؤسسة السعيد الثقافية سنة 2014، والذي لم يُنشر بعد.
وبالنسبة لعــدن، التي جاء ذكرها في الإنجيل، من المعلوم أنها تحظى بمكانة خاصة في مخيلة الغربيين. وزاد من أهميتها بالنسبة لهم موقعها في طريق التجارة بين الغرب وبلدان جنوب وشرق آسيا. ولا شك أنّ احتدام الصراع الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في مطلع القرن التاسع عشر قد أكسب عدن أهمية أكبر؛ حتى أن الرحالة الفرنسي لويس سيمونان أطلق عليها: “جبل طارق البحر الأحمر”. كما أنّ عدن، بعد أن احتلها البريطانيون سنة 1839، أصبحت المأوى المفضل لعدد كبير من المستكشفين الجواسيس والمغامرين والصحفيين الأدباء والمبشرين الذين اتخذوها نقطة انطلاق لمهامهم أو مغامراتهم في مختلف المناطق القبلية المحيطة بعدن و(اليمن التركي) وحضرموت، وكذلك الجزء الشرقي من القارة الأفريقية.
ولا شك أنّ انتعاش حركة الملاحة في البحر الأحمر من جديد بعد اكتشاف السفن البخارية في مطلع القرن التاسع عشر، وإعلان عدن ميناءً حرًا سنة 1850، وافتتاح قناة السويس سنة 1869، وتشييد ميناء التواهي (ٍSteamer Point) الذي بات قادرا على استقبال جميع أنواع السفن البخارية، قد زاد من أهمية ميناء عدن وجعل المدينة تستقطب أعدادًا أكبر من الناس القادمين من مختلف بقاع العالم.
وخلال القرن التاسع عشر انحصر الوجود الغربي في عدن في الجنود والموظفين الحكوميين وعدد محدود من التجار الذين فتحوا في عدن فروعًا لشركاتهم الضخمة وذلك بغرض تنظيم حركة التجارة والملاحة بين أوروبا وسواحل أفريقيا والهند والشرق الأدنى. ويذكر سيمونان أن الإنجليز، بفضل فعالية وكلائهم الفارسيين، يأتون في المرتبة الأولى بين التجار الغربيين في عدن سمة 1865. أما الفرنسيون، فقد كثفوا وجودهم التجاري في عدن بعد افتتاح قناة السويس وتأسيس شبكة خطوط الملاحة الفرنسية. وقد ازدهر عدد من الشركات الفرنسية التي تعمل في عدن ومرسيليا مثل شركة فياني- مازاران- بارديه وشركة أنتوني بس. بالإضافة إلى ذلك، منذ نهاية ستينات القرن التاسع عشر أسهم الفرنسيون في إنشاء الفنادق الكبيرة في عدن، ففي سنة 1867، قام تيان سويل بافتتاح “فندق الكون الكبير” في التواهي.
ومن ناحية أخرى، منذ بداية الاحتلال البريطاني في سنة 1839، صارت عدن نقطة انطلاق للرحلات الاستكشافية والاستخبارية والتبشيرية التي كان الغربيون يقومون بها في سواحل شرق أفريقيا. ففي “بر العجم” كتب الفرد بارديه: ” أخبرنا السيد سويل أنّ معظم مستكشفي شرق القارة الأفريقية ووسطها، قد نزلوا في فندقه في انتظار السفن المتجهة إلى زنجبار والموانئ الأخرى الواقعة في السواحل الشرقية لأفريقيا. وشعرنا أنّه بإمكاننا هنا أحسن من أي مكان آخر أن نتحصل على معلومات جيدة عن الأوضاع في شرق أفريقيا”. أما بول موراند فيؤكد في كتابه ( طريق الهند) “إنّ نزلاء الفنادق في عدن هم من الجواسيس والمهربين والعسكريين الاستعماريين والأطباء وموظفي الصليب الأحمر وتجار السلاح والصحفيين الغربيين”.(انظر كتابي: عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين، مطبعة جامعة عدن 2002). ومن المعلوم أن الأديب الجاسوس البريطاني ريتشارد بيرتون كان قد اختيرت له عدن منطلقا لمهامه الاستخباراتية في سواحل شرق إفريقيا سنة 1854.
وفي بداية القرن العشرين تضاعف حجم التواجد الغربي في عدن مع تصاعد أهمية عدن كقاعدة عسكرية وزيادة عدد الشركات التجارية الغربية التي لم تعد قادرة على الاكتفاء بالموظفين الهنود واضطرت إلى جلب عدد كبير من الموظفين من أوروبا. فأنتوني بس مثلاً كان يُحضِر معظم سكرتيريه ومُديريه من فرنسا وبريطانيا. ومن الطبيعي أن تؤدي زيادة عدد الأوروبيين في عدن إلى ظهور بنية تحتية غربية في عدن، كالكنائس والمدارس والنوادي والمسارح، ومنتجعات جولد مور ومعاشيق، وبعض الخلايا الماسونية. و”عندما تأتي سفن نقل الركاب إلى ميناء التواهي، فالاستعماريون يصعدونها: النساء يتوجهن إلى الكوافير، والرجال إلى البار”.
وقد دفع الوجود الغربي المتزايد في عدن وبروز بعض ملامح الحياة الغربية بول نيزان إلى خلق مضاهاة بين عدن وأوروبا. فهو يقول في كتابه (عدن العربية): “إنّ الذي يجب أن يفهمه المرء هو أنّ عدن صورة مركزة لأمنا أوروبا. بل أنّها أوروبا مكثفة جدًا. فبضع مئات من الأوروبيين محتشدين في مساحة خمسة أميال طولاً وثلاثة أميال عرضًا – كأنّهم في سفينة السجناء- يعيدون هنا وعلى نطاق مصغر، ولكن بدقة متناهية، تلك التصاميم التي تتشكل بفعل طبيعة العَلاقات التي تفرزها الحياة في البلدان الغربية. إنّ الشرق يعيد إنتاج نصف الكرة الغربية وهو في الوقت نفسه تعليق عليه. فسكان عدن لا يختلفون عن سكان لندن أو باريس، فهم من الطينة نفسها، ولكنهم في دفينة تجعلهم يبدون أكبر نموًا. وهم مثل أهل أوروبا يظهرون ويختفون ويمشون ويتريثون بدون إيقاع أو سبب”. (انظر كتابي: عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين، مطبعة جامعة عدن 2002).
أما في هذه السلسلة من المقالات فسأحاول أن أقدم بإيجاز عددا من (الرحالة)، دافيد هوجارث وثيودور بنت ووايمان بوري (الملقب بعبد الله منصور) وإريك ماكرو وفريا ستارك والهولندي فان در ميولن، الذين استخدمتهم بريطانيا لجمع المعلومات الاستخباراتية في الجنوب العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى سنة 1967، مع التركيز على العلاقة بين نصوصهم الرحلية والأدبية والسيرذاتية والاستخباراتية، التي مزجت بشكل لافت بين الأسلوب الأدبي بل والرومانسي الجميل والخطاب الاستخباراتي، وبين الطريقة التي عاملتهم بها بريطانيا العظمى.
*نقلا عن موقع مهارات