[ لعبة "أبو ظبي" الكبرى.. هل انتهى اليمن الموحّد إلى الأبد؟ ]
أخبرتنا الحرب اليمنية ومازالت تخبرنا بالكثير، وكأي حرب ومهما كانت توجهات أحد طرفيها -كالتحالف السعودي-الإماراتي مثلًا- حازم وصارم ويتعامل مع الطرف الثاني على أنه تهديد وجودي ينبغي ردعه، وهو في حالتنا هذه جماعة أنصار الحوثي؛ فإنه ورغم كل تلك الحدة لم يخرج الطرف الأكثر قوة وتنظيمًا وعتادًا بما لا يقاس منتصرًا بحال، بل يبدو وأن الأمر ينتهي ببطء على طاولة المفاوضات، كأي صراع مسلح طويل المدى.
تؤكد لنا آثار أقدام قياديين من قيادات الحوثيين في المملكة العربية السعودية صحة هذه النظرية، وكان ذلك عندما تواردت الأنباء عن زيارة اللواء علي الكحلاني، وحسين العزي نائب وزير خارجية حكومة الحوثيين بصنعاء -غير المعترف بها- إلى الرياض مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الحالي لإجراء حوار برعاية أمريكية، وهي زيارة نادرة من نوعها كافئتها في الندرة زيارة تالية منذ أيام قليلة للأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع السعودي لسلطة عُمان، ووضع المحللون الزيارتين في إطار جهود مكثفة من المملكة تحديدًا لإنهاء تورطها في الحرب التي تستنزفها بشكل يومي، خاصة بعد توقيع اتفاق سلام جنوب اليمن المعروف باتفاق الرياض في الخامس من الشهر الحالي أيضًا.
في ظل هذه التحركات، تتناول المادة المطولة التالية قصة الجنوب اليمني، منذ البداية وعلاقته المضطربة بالشمال على الدوام، وطموحات الانفصال التي ما تلبث أن تشتعل كلما بدا خفوتها، مرورًا بما قبل الربيع العربي ثم الإطاحة بنظام علي عبد الله صالح، ووصولًا للعبة الإماراتية الحالية في الجنوب عن طريق ذراعها الرئيس "المجلس الإنتقالي الجنوبي"، لنحاول التنبؤ بما إن كنا سنشهد في المستقبل القريب انفصال ويمن شمالي وجنوبي كرغبة أبو ظبي وعلى غرار النموذج السوداني المضطرب، أم أن لعبة الإمارات ستفشل وستتلقى أحلامها البحرية التوسعية ضربة أخرى.
نص المادة
ربما لم يكن القائد العسكري "منير محمود أحمد المشالي"، أو "أبو اليمامة اليافعي" كما يُعرف باسمه الحركي، معروفا على نطاق واسع للكثير من اليمنيين قبل تلك اللحظة التي قُتل فيها، بصحبة 46 جنديا آخرين، في هجوم غامض بالصواريخ والطائرات بدون طيار نفّذه الحوثيون في الأول من أغسطس/آب الماضي واستهدف حفل تخريج للعسكريين في عدن كان "اليافعي" حاضرا فيه بصفته القائد الرئيس لقوات الحزام الأمني في المدينة، ما جعله -من الناحية التقنية- المسؤول الأمني الأبرز في محافظة عدن وأحد أبرز المسؤولين في جنوب اليمن في ذلك التوقيت.
كان العميد "أبو اليمامة"، البالغ من العمر 45 عاما لحظة مقتله، هو قائد لواء الدعم الأول لقوات الحزام الأمني العاملة في عدن، وهي إحدى الأذرع العسكرية للمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، والتي تخضع في الوقت نفسه -من الناحية النظرية- لسلطة الرئيس اليمني "عبد ربه منصور هادي"، بوصفها جزءا من التحالف السعودي الإماراتي، وهو ما جعل "اليافعي" مسؤولا عسكريا حكوميا بشكل من الأشكال، ويُفسّر البيان الذي أصدرته الحكومة نعيا له وثناء على "جهوده وتضحياته" في تحرير الأراضي اليمنية من أيدي الحوثيين.
ينحدر(1) "منير اليافعي" من قبيلة "يافع" التي تُعَدُّ أحد أكبر الاتحادات القبلية في عدن وما حولها والمعروفة بصرامتها ودعمها المطلق لاستقلال الجنوب اليمني، وكان قائدا عسكريا مخضرما قضى الشق الأكبر من حياته المهنية ضابطا في جيش اليمن الجنوبي قبل الوحدة مع الشمال عام 1990، ثم ناشطا في حركة الاستقلال التي قاتلت ضد الرئيس السابق "علي عبد الله صالح" إبان الحرب الأهلية عامي 1993 و1994، قبل أن يضطر للفرار إلى المنفى في عمان بعد هزيمة الجنوبيين، ليعود مجددا عام 2007 مع تجدد الحراك الداعي لاستقلال جنوب اليمن.
خفت نجم "أبو اليمامة" نسبيا مع خفوت دعوات الانفصال المسلحة في الجنوب اليمني، وانخراط الزعماء الجنوبيين في المفاوضات الحكومية بعد الانتفاضة
كجزء من الحراك، كان "أبو اليمامة" واحدا من الضباط الجنوبيين السابقين الذين سعوا لبدء انتفاضة ضد نظام "صالح" في اليمن، لذا اعتُقل من قِبل قوات الأمن الموالية لـ "صالح" عام 2010 وحُكم عليه بالإعدام، لكنه فرَّ من السجن واختبأ ليظهر مرة أخرى خلال الانتفاضة اليمنية عام 2011 ليُعتقل مرة أخرى بسبب نشاطه ضد نظام "صالح"، وبالأخص بسبب دوره في الاستيلاء على القاعدة العسكرية في منطقة "ردفان" بمحافظة "لحج" والتي تحوّلت إلى موقع ثوري لدعم النشطاء المؤيدين لاستقلال الجنوب أثناء الانتفاضة.
خلال الأعوام التالية، خفت نجم "أبو اليمامة" نسبيا مع خفوت دعوات الانفصال المسلحة في الجنوب اليمني، وانخراط الزعماء الجنوبيين في المفاوضات الحكومية بعد الانتفاضة، لكن نجم "اليافعي" عاد للظهور مجددا مطلع عام 2015 بعد الانقلاب الحوثي على حكومة هادي، حيث قاد "أبو اليمامة" المقاومة الجنوبية الموالية للقيادي "عيدروس الزبيدي" -ابن محافظة الضالع الجنوبية- ضد التوغل الحوثي خاصة في منطقة "ردفان"، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة ولفت إليه أنظار دولة الإمارات التي كانت قد بدأت ترسّخ نفوذها في جنوب اليمن كجزء من التحالف العسكري الذي تقوده السعودية هناك.
وخلال الأشهر التالية، تحوّل "أبو اليمامة" إلى بطل حرب بالنسبة للكثير من الجنوبيين، وظهرت كفاءته العسكرية بوجه خاص منذ اختارته الإمارات لقيادة قوات الحزام الأمني في عدن في فبراير/شباط 2017 بعد تفاقم الخلافات بين أبوظبي وهادي، وبعد فشل قائد الحزام الأمني السابق "نبيل المشوشي" في إحكام السيطرة على مطار عدن الإستراتيجي.
أصبح اليافعي خلال فترة قصيرة المشرف الأكبر على الأنشطة الأمنية في عدن وما حولها، وتحوّلت المدينة الميناء تحت قيادته إلى عاصمة فعلية للنفوذ الإماراتي ومركز العمليات الاستكشافية الإماراتية في شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي، بخلاف إشرافه على العمليات العسكرية للحزام الأمني ضد الحوثيين وبقايا تنظيم "القاعدة" في محافظات لحج وأبين وتعز، جهود تكلّلت بحوز "أبو اليمامة" للصدارة القبلية أيضا إثر تعيينه شيخا لقبيلته في "مشالة" بـ لحج خلفا لعمه، كتكريم لجهوده العسكرية في دعم الحركة الجنوبية.
ورغم أن مسيرة اليافعي الحافلة بلغت نهايتها بوفاته إثر الهجوم الحوثي، فإن موته أرسل(2) موجات صدمة عبر الجنوب، محفّزا سلسلة من التفاعلات السياسية والعسكرية التي يُرجّح أنها ستغيّر وجه اليمن بشكل جذري، وفي حين كان "المجلس الانتقالي الجنوبي"، وحلفاؤه في الإمارات، يتوخّون الحذر في دفع أجندة الانفصال بسرعة غير مناسبة؛ فإن مقتل "اليافعي" غيّر ذلك فيما يبدو. ففي البداية أصدر المجلس الانتقالي بيانا نعى فيه "اليافعي" كواحد من الذين "ضحوا بأرواحهم لأجل استقلال الجنوب" حدّ تعبير البيان، قبل أن يأخذ المجلس دفّة المواجهة لمستوى مختلف تماما حين اتهم الرئيس هادي وحلفاءه في حزب الإصلاح بالتواطؤ في الهجوم.
منذ ذلك الحين، شنَّ المجلس الانتقالي حملة شرسة ضد حكومة "هادي" في عدن بمساعدة غارات جوية إماراتية استهدفت القوات الموالية لهادي والمدعومة من السعودية، وفي غضون ثلاثة أيام من الهجوم الحوثي، وتحديدا في الخامس من أغسطس/آب، كان المجلس الانتقالي قد نجح في السيطرة على عدن تاركا إدارة "هادي" دون تأثير يُذكر في المدينة الأكثر أهمية في الجنوب، وانطلاقا من عدن، وسّع(3) المجلس الانتقالي عملياته العسكرية ضد القوات الموالية للحكومة في محافظة أبين المجاورة، مسقط رأس "هادي"، وغيرها من محافظات الجنوب، لتستمر معارك الكر والفر بين الفريقين على مدار ثلاثة أشهر، بينما تدور في الخلفية مفاوضات معقّدة بين الفصيلين المتحاربين ورُعاتهما في الإمارات والسعودية تكلّلت نهاية أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بالتوصل لاتفاق في جدة لإنهاء الصراع مؤقتا بين الفريقين، وهو اتفاق تم توقيعه بالرياض في الخامس من نوفمبر الحالي.
بموجب الاتفاق السعودي(4)، سيتم منح الجنوبيين تمثيلا أكبر في حكومة يمنية جديدة يتم تعيين نصف وزرائها من الشمال والنصف الآخر من الجنوب، مع دمج ميليشيات المجلس الانتقالي وقوات الحزم الأمني بشكل كامل في الحكومة، على أن يعود الرئيس هادي ورئيس وزرائه معين عبد الملك من الرياض لممارسة السلطة في ومن عدن خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
ورغم إبرام الاتفاق بين الفريقين رسميًا وتجميد الصراع بينهما مؤقتا، فإنه لا تزال هناك العديد من الألغام(5) المنتظر أن تتفجر خلال الفترة القادمة. فمن ناحية، فإن نجاح الاتفاقية سيتوقف على المناصب التي سيحصل عليها قادة المجلس الانتقالي (يطالب المجلس بالحصول على حقيبة الداخلية لكن هادي لا يزال يرفض ذلك)، والمخصصات المالية التي ستحدد للمجلس من قِبل الحكومة، وذلك من بين العديد من العوامل الأخرى، ومن ناحية أخرى، ليس هناك ما يضمن أن السيناريو الحالي يمكن ألّا يُغري المجلس الانتقالي بتجديد الصراع مستقبلا لتقويض حكومة هادي وانتزاع تنازلات جديدة ودفع أجندته الانفصالية خطوات أخرى، وهو ما يعني أن جلّ ما فعله الاتفاق الأخير هو توفير حل قصير الأمد لمشكلة مزمنة، وأنه ليس هناك ما يضمن أن ينفجر الصراع التاريخي في الجنوب مجددا في وقت أقرب ربما مما يظن الجميع، وبشكل أعنف مما يظنون أيضا.
أحجية الشمال والجنوب
على مدار التاريخ، كانت هناك القليل من الأوقات التي توحّد فيها اليمن تحت سلطة حاكم أو نظام واحد، حيث حالت(6) طوبوغرافيا البلاد الجبلية وصحاريها وتقاليدها الثقافية دوما دون بناء مركزية قوية سواء في الشمال أو الجنوب، وظلّت سلطة الدولة دائما محدودة في حين تم توزيع مراكز القوى بين الكُتل القبلية المؤثرة، وكانت هذه الفوضى السياسية ربما هي العامل المشترك الأكبر بين شمال اليمن وجنوبه اللذين احتفظا بالعديد من الاختلافات السياسية والاجتماعية والثقافية، ناهيك بكون كلٍّ منهما سلك مسارا تاريخيا مختلفا تماما عن الآخر.
ففي الشمال والشمال الغربي، كانت الهيمنة(7) تقليديا من نصيب اتحادين قبليين رئيسين هما "حاشد" و"بكيل" اللذان ضمّا مزيجا من العشائر السنية والزيدية الشيعية، وخلال الجزء الأكبر من تاريخه ظلّ شمال اليمن محكوما بواسطة الإمامة الزيدية بالتعاون مع القبائل القوية في الشمال، قبل أن تؤدي الحرب الأهلية في شمال اليمن (1962-1970) في نهاية المطاف إلى انهيار الإمام وانتصار القوى الجمهورية، مما أدّى إلى تهميش أعضاء النخب الزيدية الذين أسسوا في نهاية المطاف الحركة الحوثية التي كرّست نفسها خلال سنواتها الأولى لحماية معتقدات وتقاليد الزيديين.
على الجانب الآخر، كان تاريخ اليمن الجنوبي مختلفا إلى حدٍّ كبير، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى سواحله الطويلة وامتلاكه لميناء عدن القديم والإستراتيجي الذي جعله مطمعا للقوى الأجنبية وفي مقدمتها بريطانيا التي قدمت إلى عدن عام 1839، وأنشأت مستعمرة للتاج البريطاني في الميناء بعد ذلك بقرن تقريبا عام 1937، ولكنّ البريطانيين، وخلال معظم فترة وجودهم في جنوب اليمن، اتبعوا سياسة براغماتية عمدت لتقليل المشاركة في الصراعات وإقامة علاقات جيدة مع حكام سلطنات جنوب اليمن المختلفة التي تمتعت بالحكم الذاتي، بداية من لحج بالقرب من عدن، وصولا إلى حضرموت في الشرق.
لكن هذه السياسة تغيّرت بشكل ملحوظ خلال العقدين التاليين مع تنامي الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية لميناء عدن، والتي أغرت على ما يبدو حاكم شمال اليمن، الإمام يحيى، بالتوسع نحو الجنوب، وداعبت في الوقت نفسه أحلام البريطانيين لتوسيع سلطتهم عبر السيطرة على المناطق الواقعة إلى الشرق والغرب من عدن، لتتشكّل بذلك المحميات البريطانية الشرقية والغربية مع تكثيف الإمبراطورية البريطانية لجهودها في استقطاب شيوخ القبائل والسلاطين إلى دائرة نفوذها باستخدام معاهدات الحماية والإعانات المالية.
بحلول عام 1963، سعت بريطانيا لإقامة هياكل دولة أكثر رسمية في جنوب اليمن عبر إنشاء ما يُعرف بـ "اتحاد جنوب الجزيرة العربية"، وهو هيكل سياسي كان من المقرر أن يجمع مشيخات وسلطنات الجنوب في شكل من أشكال الاتحاد السياسي، غير أن نفوذ بريطانيا كان قد بدأ يؤجّج تيارا قوميا متصاعدا في الجنوب تلقّى دعما رمزيا من قِبل الزعيم القومي المصري جمال عبد الناصر، تيارا سرعان ما تطور لانتفاضة ومقاومة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني استمرت حتى عام 1967 حين قرر البريطانيون المغادرة تاركين المجال لتأسيس أول دولة موحّدة لليمنيين الجنوبيين.
سيطرت الجبهة الوطنية الماركسية التي قادت المقاومة ضد البريطانيين على الدولة الجديدة بعد أن همّشت جبهة التحرير شريكها في الثورة، وعزّزت الجبهة بقيادة الرئيس "سالم ربيع" سريعا قبضتها على السلطة، وقامت بتغيير اسم البلاد إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، وأقام(8) قادة البلاد الجدد علاقات مع الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي وكوبا والصين وألمانيا الشرقية، ودشّنوا برامج "إصلاح" هدفت إلى إعادة تشكيل البلاد وفق أسس اشتراكية لينينية عبر استبدال القبلية والإسلام لصالح الولاء للدولة وأيديولوجيا الحزب الاشتراكي، وفي الوقت نفسه شرعوا في تأسيس مؤسسات بيروقراطية مركزية استبدلت سلطة القبائل والشيوخ، وتم تأسيس المدارس المختلطة وسُمح للنساء بالمشاركة في الحكومة.
بالتزامن مع ذلك، قامت الدولة الجديدة باقتلاع الأمراء الأثرياء والسلاطين والشيوخ الذين ازدهروا في ظل الحكم البريطاني واستولت على أراضيهم، وأجبرت الكثيرين منهم على الانتقال إلى دول الخليج حيث أسسوا عائلات ثرية ومؤثرة، في الوقت الذي نجحت فيه في التغلب على محاولات الانفصال المبكرة خاصة من حضرموت التي كانت -ولا تزال- ترى نفسها مختلفة عن بقية الجنوب.
ومع استتباب الوضع الداخلي في الدولة الوليدة، انخرط القادة الاشتراكيون للبلاد في دعم الحركات الثورية الإقليمية وعلى رأسها الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج والتي لعبت دورا في تمرد ظفار العماني، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما دعم اليمن الجنوبي الجماعات اليسارية العاملة في شمال اليمن، فيما دعم شمال اليمن بدوره حركات التمرد ضد القيادة الماركسية في الجنوب ما تسبّب في اندلاع حروب حدودية بين البلدين عامي 1972 و1979.
لكن الأداء الخارجي النشط للاشتراكيين الجنوبيين في اليمن لم يحمهم من نيل نصيبهم الخاص من الخلافات الداخلية، فعلى الرغم من أن الدولة الجنوبية قدّمت نفسها بشكل خاص بوصفها تمردا ضد الاستعمار والحكم القبلي، فإنها قامت ببناء قوتها على التحالفات القبلية ذاتها المتوارثة من إمارات وسلطنات جنوب الجزيرة العربية، وهيمنت المحاصصة والمحسوبية على هياكلها الأمنية والسياسية ما تسبّب في اندلاع العديد من الخلافات الداخلية بين الجنوبيين تطوّرت إلى حرب أهلية جنوبية عام 1986 انتهت بفرار العديد من الجنوبيين إلى الشمال.
تسبّبت الحرب الأهلية في تردي الوضع الاقتصادي في اليمن الجنوبي، وزادت الأمور سوءا مع سقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان المصدر الرئيس للمساعدات الخارجية للدولة الجديدة، ما جعل اقتصاد البلاد الضعيف بالفعل عُرضة للانهيار، وللمفارقة فإن التدهور الاقتصادي السريع للجنوب عزّز من اعتقاد حكومتي الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب بإمكانية إبرام وحدة ناجحة، وهو ما حدث بالفعل حيث وقّع البلدان اتفاقا رسميا للوحدة بينهما عام 1990.
بموجب اتفاق تقاسم السلطة بين الشطرين، تولّى "علي عبد الله صالح" رئيس اليمن الشمالي رئاسة الدولة الجديدة، فيما تولّى "علي سالم البيض"، رئيس جنوب اليمن السابق، منصب نائب الرئيس، لكن الخلافات سرعان ما دبّت(9) بين الفريقين مع اقتراب موعد أول انتخابات برلمانية بعد الوحدة عام 1993 بفعل حملة اغتيال منظمة نفّذها صالح وجهازه العسكري ضد السياسيين الجنوبيين، وهو ما أثّر على أداء الكتلة الجنوبية التي حصلت على 69 مقعدا فقط من إجمالي 301 مقعد برلماني، وهو ما عنى تقليص سلطة الزعماء الجنوبيين في الدولة الموحّدة، وما دفعهم في النهاية لترك العاصمة صنعاء والعودة إلى عدن رافضين المشاركة في الحكومة الجديدة.
تبادل الحزبان الاتهامات حول المسؤولية عن تقويض الوحدة والإخلال باتفاق تقاسم السلطة، ومهّد انهيار المحادثات بينهما المسرح لنشوب الحرب الأهلية التي اندلعت حين قامت قوات صالح بقصف مطار عدن في 4 مايو/أيار عام 1994، لترد القوات الجنوبية بقصف مطار صنعاء في الشهر نفسه، قبل أن يُعلن الجنوبيون من جانب واحد الاستقلال عن اليمن الموحّد لتندفع القوات الشمالية نحو الجنوب وتسيطر في النهاية على عدن، في حين اضطر الزعماء الجنوبيون للفرار بالقوارب إلى عمان المجاورة.
من الناحية النظرية، انتهت الحرب الأهلية خلال أشهرها الأولى بانتصار الشمال، ونتيجة لذلك فإن الجنوب دفع(10) الفاتورة الكاملة للحرب، فكان هو الأكثر تضرّرا بشكل مباشر من الحرب بحكم وقوع معظم القتال في المناطق الجنوبية، وبخلاف ذلك فقد الجنوب مع انتهاء الحرب كل نفوذه السياسي، مما سمح لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم وحليفه حزب الإصلاح بالتراجع عن ترتيبات تقاسم السلطة التي تم سنّها عند الوحدة، حيث قامت الحكومة الجديدة بنسف مواد الدستور الأساسية وتعديله لتضيف 29 مادة جديدة عزّزت مراكز السلطة في أيدي الشماليين، وسمحت للرئيس منفردا بتعيين رئيس الوزراء وشغل منصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء.
بخلاف ذلك، قام الشماليون بالاستيلاء على الكثير من أراضي الجنوبيين بشكل غير قانوني بعد الحرب، وتمت إحالة الجنوبيين إلى التقاعد القسري في العديد من الوظائف المدنية والمواقع العسكرية، وحُجبت المعاشات التقاعدية لضباط الجيش الجنوبيين، وتم استخدام عائدات النفط الجنوبية لتمويل شبكات المحسوبية النظامية في الشمال وشراء الولاءات السياسية، فيما تم حرمان الجنوبيين منها، وقام "صالح" بتعيين حكام عسكريين موالين في المقاطعات الجنوبية وفرض رقابة على الصحف وأغلق العديد منها، ما عزّز شعور الجنوبيين