[ في رحاب بني شيبة تعز .. الشرق ]
أنهينا زيارة "زريقة الشام" وطريق "المليوي" الجديد، غربي الحجرية، وكان علينا أن نعود أدراجنا لزيارة المحطة التي تركناها خلف ظهورنا في الطريق الذي سلكناه في رحلتنا تلك وهي "بني شيبة الشرق".
فبينما ولِجْنا المنطقة، ووطئت أقدامنا تربتها، كان أول سؤال تبادر إلى الذهن هو: من هو شيبة ذاك الذي تنسب إليه المنطقة؟ ولِمَ لَمْ يقم أحد بالتأصيل لهذا النسب والتسمية مع وجود أهم أعلام التاريخ اليمني الحديث فيها البروفيسور يوسف محمد عبدالله، والأستاذ عبدالملك الشيباني - رحمهما الله؟!
في الحقيقة هو تساؤل منذ زمن بعيد عن من يكون هذا الرجل والنسب إليه، وإلى جانب السؤال عن تسمية "بني شيبة" أيضاً تساءلنا عن "حَمّاد" الذي ينتسب إليه بنو حماد، و"أحمد" الذي ينتسب اليه بنو أحمد في سامع، والذي غالباً ما يذكره المؤرخون في كتبهم التاريخية ب"الأحمدي"، وكذلك "محمد" الذي ينتسب إليه بنو محمد المجاورون لبني شيبة، وأيضاً "عمر" الذي ينتسب إليه بنو عمر القريبون منهم، وكذلك "غازي" الذي ينتسب إليه بنو غازي في ذبحان!
فهذه الأنساب والتسميات، بشكل مؤكد، تعود لبعض عهود الدولة الإسلامية ولا شك، عدا شيبة هذا الذي تنتسب إليه المنطقة، فهناك الكثير من القرائن تدل على أنه قبل الإسلام، لكن من هؤلاء على وجه التحديد؟ وما هي مكانتهم الاجتماعية في قومهم؟
فقط "أحمد" العَلَم السامعي الذي أجد له بعض التأصيل كفقيه من فقهاء المنطقة في عهد الدولة الرسولية، وهو أحمد من منطقة الأشعوب تسمى سامع، كما جاء في السلوك عند الجندي، انتسب إليه من جاء بعده، لكن "شيبة" و"حماد" هما الأكثر غموضاً، وهناك بنو محمد في أكثر من منطقة بتعز.
فمحمد هذا وجدنا له بعض إشارات عند الجندي أيضاً أنه محمد بن عمر من ولاة ووجهاء أعمال السمدان، وعلى الأرجح هو من ينتسب إليه بنو محمد اليوم كونهم لا زالوا من سكان تلك المنطقة، وأبوه عمر الذي ينتسب إليه بنو عمر بالقرب منهم؛ بمعنى أن بني عمر وبني محمد إخوة وقرابة يعودون إلى نسب واحد.
تكثر مسميات المناطق التي تنسب لأشخاص أعلام في المعافر/الحجرية، وتكاد تكون السمة الغالبة على تسميات مناطقهم، ومنهم "بنو يوسف"، وهذا الأخير هو الوحيد الذي كان نسبه واضحاً كل الوضوح وسلسلته المتصلة في شجرة نسبه بين كل التسميات السابقة، وكذلك مكانته في قومه.
فيوسف الذي ينتسب إليه بنو يوسف في كل من بني يوسف المواسط، وبني يوسف القبيطة (اليوسفيين) ويوسفيوو الشريجة وكرش، كلهم يعودون إلى يوسف بن علي عبدالصمد التيمي، ويعود نسبهم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وكان الملك الظاهر الرسولي – على وجه التقريب- ولاه على منطقة الأشعوب والسكاسك من المعافر، والتي تضم سامع وقدس والصلو وجزءًا من خدير والراهدة، في نهاية الدولة الرسولية، واتخذ جزءاً من سامع مقراً ومقاماً له هي المنطقة التي تسمى باسمه اليوم "بني يوسف المواسط"، وكانت سامع تمتد إلى "وادي العَجَب" حدود منطقة قدس، وصارت اليوم عزلة بني يوسف.
بحكم توليه المنطقة وعُزَلها وزع يوسف أولاده على المناطق، ومن بعده بأجيال تمدد نسله في كل تلك المناطق، ومنهم من هاجر إلى إب واتخذها مسكناً له، وهي ما تعرف اليوم بمناطق اليوسفيين في "قابِع" و"عَمَيد" والجعاشن والعدين وبعض تواجد في الدليل، وغيرها من المناطق، وكل هذه الأمور موثقة بمعلومات وأدلة مؤكدة وصحيحة أجريت فيها بحثاً شاملاً منذ سنين.
وبالعودة إلى أساس موضوعنا (بني شيبة) فإنه ليس كل من تلقب بالشيباني يعود أصله إلى هذه المنطقة؛ فهناك بنو شيبان في زبيد، وقد ذُكِر بعض أعلامهم في بطون الكتب من القرن الخامس الهجري.
موقع وجغرافية المنطقة
على سفح جبل ظفار غربي الشمايتين، وفي رأس وادي زريقة الشام مع ملتقى منطقة الزعازع تقع منطقة بني شيبة الشرقية ذات التاريخ المجهول، تستظل بأمانه وتحتمي بقوته وتنام بين ذراعيه كطفل بين أحضان أم حانية.
وفي شرق المنطقة يوجد الجبل "المخروق"، وهو جبل يعلوه صخر متصل ببعضه البعض أشبه بنافذة كبيرة من أصل الجبل سمي باسمها "مخروق"، وهو ذو منظر بديع في أعالي منطقة السَّوَّيقة من بني شيبة، والتي يوجد في أسفلها سد كبير وحديث في غور وأخدود تلك المنطقة، لتبدأ من بعده أعالي منابع "زريقة الشام".
وإلى جنوب غرب تلك المنطقة تبدأ سلسلة جبال الزعازع وراسن في المنطقة، وبعدها منطقة المشاولة، ولكل جبل منها اسمه الخاص، وكلها حوت حصوناً وقصوراً مختلفة موغلة في التاريخ اليمني.
دلالة المسمى اللغوي في الكشف التاريخي
يفصل بين بني شيبة الشرق وبني شيبة الغرب جبل يسمى جبل ظفار، وهذا الاسم أيضاً ملفتاً للانتباه كغيره من المسميات المحلية الأخرى كمناطق وجبال، وماذا تعني تسمية ظفار في لغة النقوش اليمنية؟!
أهم منطقتين ومدينتين يمنيتين سُميتا بهذا الاسم (ظفار) هي ظفار يريم عاصمة الحميريين، وظفار الحبوضي شرق عمان، بينما تكثر تسمية ظفار على بعض جبال اليمن.
أسفل تلك المنطقة، وفي المثلث الرابط بينها وبين الزعازع و"زريقة الشام" و"راسِن"، منطقة تسمى "الهَجَرْ" بفتح الهاء والجيم وسكون الراء، وهو اسم ملفت لكل مؤرخ او باحث تاريخي إذا زار منطقة من المناطق؛ إذ لا تخفى عليهم التسمية.
ف"الهَجَر" في اللغة اليمنية القديمة اسم ولفظ يطلق على المدينة، وكثير من المدن اليمنية القديمة سميت ب "الهَجَر"؛ ففي أسفل مدينة الراهدة منطقة قديمة تسمى" الهَجَر"، وكذلك هما مدينتان في محافظة شبوة؛ هجر كحلان وهجر بن حميد، وكذلك منطقة ومدينة قديمة في بني مطر بمحافظة صنعاء كما في بعض النقوش المسندية، ومنطقة ومدينة "الهَجْرة" في حراز من محافظة صنعاء أيضاً.
وهي كذلك مناطق وتسميات كثيرة في اليمن والجزيرة العربية وأشهر هذه المناطق هما مدينة "الهجر" في شبوة كونها لا تزال قائمة حتى اليوم، ومدينة "هَجَر" على ضفة الخليج العربي بين البصرة والكويت المذكورة في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي رواه مسلم (194) بلفظ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى" . والقاسم المشترك بين كل تلك التسميات والمناطق أنها مدن تاريخية بتسميات لغوية سامية قديمة.
هناك مناطق أخرى تسمى" هِجَرْ" مفردها" هِجْرَة" لا تمت للتسمية السابقة بصلة أو صفة؛ فهي أماكن تعليم وتدريس صوفية وإسلامية.
وقد ذكرت تلك الهِجَر للمعافر في نقش النصر لكرب إيل وتر، وهو يعدد حروبه عليها في الفقرتين الثالثة والرابعة من النقش بالقول:
كرب إل / ودي / وتاو / زم / وتر / ووقه / ويوم / مخض / سادم / ووفط / نقبتم / وكل / أهجر / معفرم / وهبعل / ظبر / وظلمم / واروي / ووفط / كل / أهجرهمو / وقتلهمو / شلثت / الفم / وسبيمهمو / ثمنيت / الفم /وهثني / سلاهمو / وبضع / بعلهمو / بعم / سلاهمو / بقرم / وسفرتم / ذ يخبو / بعم..
سَلاهمو/ ومخض / ذبحن / ذ قشرم / و شرجب / ووفط / أهجرهمو / وستمخض / عرهمو / عسمت / ومنهيتهمو / صير / لـ المقه / ولسبأ /
ثمة العديد من الآثار والمعالم التاريخية المختلفة في بني شيبة الشرق تدل على أنها لعبت دوراً تاريخياً، وكانت عامرة بالحياة والنشاط ذات زمن بعيد، وقد تكون المدينة المندثرة فيها هي" الهَجَر" المذكورة، فبينهما مسافة لا تزيد عن ثلاثة كيلومترات فقط.
لم يشد ناظري بقايا المعالم الموجودة فيها بقدر ما شده بقايا مدينة مطمورة تشي بأنها موغلة في القِدَم، قامت على أطلالها حصون ومبانٍ إسلامية.
فتلك المعالم وآثارها تدل على عهدين وفترتين مختلفتين ومتباعدتين؛ عهد ما قبل الميلاد من خلال بقايا أساس مبانٍ مطمورة ومتداخلة وملتصقة بعضها ببعض، وعهد إسلامي قام على أنقاض المدينة السابقة، كما هو الحال في الجند والجؤة والدملؤة والقاهرة (تعز) وعدينة (المدينة القديمة) وجبأ.
من خلال هذه الآثار، ووقوع المنطقة في ملتقى طرق جنوبية غربية قادمة من الوازعية وموزع وذو باب، وتقع أسفل حصون عالية ومشهورة، وتتبعها أودية خصبة وزراعية منتجة، ومياه أنهار دافقة في أودية "الزريقة" و"راسن" و"تُبْ"، يتضح أنها كانت تنعم بالاستقرار ومحطة للمسافرين بين شمال المعافر وجنوبه وغربه، وكانت تتبع مدن ذبحان وشرجب.
بل إن تسمية "السَّوَّيقة" في تلك المنطقة تدل على أنها كانت منطقة تسوق ومحطة تجارية على طريق القوافل القادمة من موانئ المخا وموزع وذو باب والتي تربط مختلف مناطق ومدن المعافر الجنوبية، وهناك أيضاً تلتقي بالطريق الغربي القادم من ميناء عدن، وتحول ذلك التسوق حديثاَ إلى مدينتي المركز والتربة بالقرب من تلك المنطقة، حيث يسوق المزارعون منتجاتهم الزراعية والحيوانية.
تسمية المعالم والأماكن
يطلق السكان اليوم على تلك المنطقة العامة التي تتجمع فيها تلك الآثار دارَ المَكادِم، وهو حصن إسلامي به ثلاثة صهاريج صغيرة مطمورة، وبجانبها أساسات لأبنية غابرة، مما يدل على عهدها القديم لما قبل الميلاد.
بينما يعلو تلك الآثار والأطلال حصن يبدو عليه سمة الدولة الصليحية، فهو يشبه - إلى حد كبير- دار العز في جبلة الذي شيدته الملكة أروى الصليحية كمقر لها في عاصمتها الجديدة ، مما يجعلنا نستنتج أنه من عهد الصليحيين.
ويسمى المكان الذي يقع فيه الحصن، وكذلك الحصن، دار المراقِب، وهو يتكئ إلى الجبل فوق تلة صغيرة على سفح الجبل، ويشرف بحق على كافة المنطقة وطرقها لتصدق التسمية على المسمى.
أسفل الحصن مباشرة وعلى يمينه توجد بقايا مدينة مطمورة، تمتد حتى مسافة بسيطة عمق الوادي الزراعي وعلى جوانبه الجنوبية وأسفل الجبل.
في أسفل الحصن يوجد مسجد أثري صغير يقع على صهريج أثري كبير في الوادي الزراعي يشبه صهاريج قلعتي القاهرة والدملوة، مبني بحجارة كبيرة وبمادة القضاض، وبالقرب منه يوجد صهريج كبير ثانٍ أيضاً يتغذى بالماء من بئر أعلى منه وأسفل سائلة الجبل، تربط بينهما قناة مائية عميقة، وفوقهما بقايا أطلال "خان" بالقضاض، وفيه صهريجان كبيران ومسجد أثري صغير.
أما جغرافية المكان فتشبه تماماً منطقة "جبا" التاريخية في المسراخ بكل تفاصيلها وتصل حد التطابق من حيث التخطيط واختيار المكان، وكذلك الوادي والبنايات والحصون والمساجد الأثرية والصهاريج والأراضي الزراعية.
بني شيبة الشرق واحدة من مناطق أثرية وتاريخية متعددة في ذات النطاق لمديرية الشمايتين، فهي تتوسط مناطق أثرية وحصون شماء شامخة لعبت أدواراً كبيرة في التاريخ اليمني والمعافري خصوصاً، مما يدل على قدمها التاريخي قبل الميلاد وظلت حتى بعد الإسلام، بعثت حيثما اندثرت قديماً.
وبالقرب من تلك المنطقة، تحديداً في جبل "يُمَين" من الزعازع، يوجد حصن وقصر تاريخي هام الذي قال عنه الشاعر محمد بن حمير:
أو قالوا لا قصرَ إلا قصرَ دملوةِ.... قلتُ برأسِ يُمَينِ القصرُ والدارُ
وفي الشمال منه بعد جبل ظفار يوجد حصن السمدان الشهير في منطقة "دُبَع" الذي يعد أهم معقل في المعافر/ الحجرية، وهدمه الأتراك بالمدافع إبان التواجد الثاني في اليمن، بعد أن تحول إلى آخر معاقل المقاومة في الحجرية.
كل معالم بني شيبة وجغرافيتها تكاد تكون مشابهة حد التطابق لمنطقة "جبا" عاصمة المعافر الثانية، سواء في اختيار الموقع المكاني، أو في الحصن ونمط بنائه، والدور المطموسة لمدينة مندثرة، وكذلك الصهاريج والمسجد الاثري، والأرض الزراعية.
أرجح أن هذه المناطق والحصون إن لم تكن حامية للمعافريين قبل، أو إبان، غزو كرب إيل وتار لمنطقة المعافر وتدميرها في منتصف القرن السابع قبل الميلاد واللجوء إليها من ذلك الغزو، فإنها بنيت وشُيدت بعد ذلك الغزو والتدمير كمناطق بديلة مؤقتاً، إذ إن بعض النقوش القتبانية تحدثنا عن قيام قتبان والمعافر بمحاربة الدولة السبئية مجدداً بعد ذلك الغزو بسنين معدودة أو بعد عقد من الزمن فقط بعد لملمة جراح المعافريين ودخولهم ضمن نطاق دولة قتبان التي كانت استدعت دولة سبأ وتحالفت مع ملكها كرب ايل وتار ضد دولة أوسان، وحدث بسبب ذلك الاستدعاء والتحالف تدمير المعافر التي كانت تحت ظل دولة أوسان، ودمرت هذه الأخيرة وانتهت بعد ذلك الغزو، ليلمع نجم قتبان مجدداَ.
تاريخ تعز المطمور
لتعز عموماً والمعافر خصوصاً تاريخ عريق لمّا يُزاح ستار الحجب عنهما بعد، وانعدام البحث الأثري والتاريخي الرسمي والممنهج في هذه المحافظة، كما هو عليه الحال في مارب والجوف وشبوة وغيرها، جعلها في نظر الناس محافظة ناشئة في عصور متأخرة وليس لها تاريخ عريق كبقية المحافظات التي كانت عواصم تاريخية لدول كبيرة كمارب لسبأ، أو الجوف لمعين، أو شبوة لحضرموت وقتبان وأوسان، وإن كنت أجزم أن تعز كانت عاصمة لأوسان ذات زمن، ولي كثير من الشواهد والأدلة ربما تصادم الحقائق المسلمة للباحثين التاريخيين والأثاريين، تدل على أن المعافر كانت عاصمة لأوسان، وكذلك عاصمة لدولة "السكاسك" غير المعروفة بتاريخها بعد.
يعرف المؤرخون والباحثون والمهتمون اليوم عن تاريخ تعز شذرات من إشارات هنا او هناك قبل الميلاد وبعده، وقبل الإسلام، وأما بعد الإسلام فقد كانت تعز محور التاريخ اليمني حتى نهاية الدولة الرسولية تقريباَ، وما بعدها لم يكن بذلك الكم والاهتمام الذي حظيت به قبل وأثناء الدولة الرسولية الغسانية.
فمن خلال التجوال والبحث والزيارات الميدانية لكثير من المواقع في أرياف محافظة تعز أقوم بها منذ أكثر من عشرين عاماً، ومواصلاً تلك التحركات حتى اليوم، أجد مدناً مطمورة كبيرة وصغيرة لم تحظ بأي اهتمام تدل دلالة بالغة أنه كان لها تاريخ كبير، ولعبت أدواراً كبيرة ومجهولة في التاريخ اليمني.
فتعز لا زالت بكراً في هذه الجوانب، وكل ما كشف منها كان عبر الصدف فقط وليس نتيجة أبحاث مدروسة.
دلالة الكثافة السكانية
من يدقق اليوم في الكثافة السكانية لمحافظة تعز، رغم التهجير الإمامي والهجرات المتعاقبة لسكانها عبر التاريخ المتوسط والحديث خاصة إلى دول أفريقيا، لا شك أنه سيجد أن من أهم أسبابها عمق تاريخها وسكناها منذ أزمنة غابرة، وكانت المناطق أكثر سكاناً واستقراراً هي المناطق الزراعية الخصبة كأهم عوامل الاستقرار، رغم ما يعرف عن أبنائها من النشاط التجاري القائم بين أفريقيا والجزيرة العربية.
ولنا فقط أن ندقق في عدد القتلى والأسرى من المعافريين الذين ذكرهم نقش النصر السابق في تدمير مدن ذبحان وشرجب والقريشة؛ فقد ذكر عدد القتلى ثلاثة آلاف، والأسرى ثمانية آلاف وهم في عداد الجيش، فكم نجا منهم مثلاً ليتصالح مع البقية؟ وكم فر منهم؟ وكم والاه منهم؟ هذا فضلاً عن عدد السكان المدنيين الذين لا يأبهون لشيء ولا يتدخلون في شيء!
فلو افترضنا أن عدد الجيش كان عشرين ألفاً مثلاً فإن تقدير عدد السكان في هذه المناطق يومها كان مائة ألف نسمة، وهو رقم كبير جداً!
فقياساً إلى ما ذكرته كلوديا فايان في كتابها "كنت طبيبة في اليمن" مثلاً فقد ذكرت أن عدد سكان صنعاء بين عامي 1948 و1950 كانوا خمسين ألفاً، وسكان صنعاء اليوم أكثر من مليوني نسمة إلى ثلاثة ملايين!
بالنظر إلى هذه المعطيات قبل قرابة ثلاثة آلاف عام فكم سيترتب على بقية السكان في مناطق المعافر المختلفة إلا هذه الكثافة السكانية التي تعني الشيء الكثير!
من هذه المناطق الجنوبية والغربية هاجر كثير من سكانها وهجروا إلى الحبشة والصومال وجيبوتي وكينيا من أفريقيا، وهناك أسسوا مدناً وعائلات لا تزال تسمى وتتلقب بألقابها حتى اليوم، كبيت الزريقي، والشيباني، والقِرْشي، والدبعي، والراسني، والقدسي، والأصبحي، والأثوري، وغيرهم، حتى أن بعض وزراء دولة جيبوتي كانوا يمنيين زريقي وقرشي.
قبل عام من الآن زرت أثيوبيا، وكان لافتاً وجود كثافة يمنية هناك بالكاد يتكلمون العربية، وحرصت أن أسأل عن أزمنة تواجد بعض الأسر هناك، فمن قائل أن بعضها يعود لمئات السنين، بينما أفادني صديق أثيوبي لا بأس بحصيلته المعرفية التاريخية أن مدناً منذ القدم نشأت بهذه التسميات، وليس عائلات فقط.