يقول المنصف بربوش مخرج فيلم "التونسية" الذي يجسد حياة بشيرة بن مراد، أول مؤسسة لجمعية نسائية في البلاد، إن الفيلم ضرب خصوم "الترويكا" بقيادة حركة النهضة "في العمق".
جاء ذلك في مقابلة أجرتها الأناضول مع المخرج بربوش حول فيلمه الذي يعرض هذه الأيام على شاشات السنيما بالعاصمة تونس.
والفيلم يتناول حياة بن مراد (1913 ـ 1993) مؤسسة الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي في 1936، أول جمعية نسائية في البلاد، والناشطة في المجتمع المدني خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات أيام الاحتلال الفرنسي للبلاد (1881 ـ 1956).
يذكر أن بربوش، غادر تونس إلى كندا مطلع التسعينيات خلال حملة نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، على الإسلاميين.
ـ هل انحاز الفيلم للإسلاميين؟
وحول اتهام الفيلم بالانحياز لرؤية معينة للتاريخ وللإسلاميين، وفق بعض المقالات النقدية، رد بربوش، "أول شيء لدي وثائق حول كل شيء، ولدي وثائق أخرى لم أضعها في الفيلم تجنبا للمشاكل، لكني أودّ أن تنشر".
وأضاف: "ثانيا، أهم شيء في حياتي وعدي لبشيرة، أنه إذا أعطاني الله الصحة والعمر والإمكانيات، سأعمل مشروع فيلم حول هذه المرأة العظيمة التي لا تأتي إلا كل مئة سنة أو مئتي سنة، فأخرجها بطلة في الفيلم، وكأنها حية تتجول في الأسواق، وتذهب لمدارس البنات".
وتابع: "أول شيء دفعها للعمل.. خطاب لعلي بلهوان (أحد زعماء الكفاح الوطني) في أحد المصائف التي كان والدها يرسلها لها في سيدي بوسعيد والمرسى (بضواحي العاصمة)، يحث الناس على الجهاد ضد المستعمر، وكان يدعو لدستور وبرلمان تونسيين، وتأثرت بشيرة بهذا الخطاب".
بربوش أشار إلى أن "الناس زمن الاستعمار ماتوا من أجل برلمان تونسي، وبشيرة فهمت أن فرنسا لا تخرج إلاّ بتجمع القوتين، النساء والرجال، ووجدت أن النساء كن يخرجن في المظاهرات زمن الاستعمار بالآلاف".
وأضاف "في الفيلم أخرجتها لتذهب للمسرح في مئويتها، فحضرت والفنانة سنية مبارك، تغني".
وتابع "ذهبت بها إلى البرلمان، فحضرت في 26 يناير/ كانون الثاني 2014، للمصادقة على الدستور، والبعض لم يستسغ هذا".
وأشار إلى استياء معارضي الترويكا (ائتلاف بين حركة النهضة، وحزب التكتل، والمؤتمر من أجل الجمهورية) من ظهور علي العريض (القيادي في حركة النهضة) في الفيلم، يمضي كرئيس حكومة، والمنصف المرزوقي، يمضي كرئيس دولة.
وقال مخرج الفيلم إن ذلك "ضربهم في العمق"، في إشارة إلى خصوم الترويكا، خاصة من أنصار نظام بن علي السابق.
وأردف: "بعد ذلك أردت أن يكرمها البرلمان، فذهبت مع ستة نواب يطلبون أن تدخل بشيرة لمجلس النواب، ويصفق لها البرلمان لا لشيء إلا لأن هناك دستورا وديمقراطية فرفض محمد الناصر (رئيس البرلمان/ 2014-2019)".
وتحدث بربوش عن تعرضه لمضايقات عند التصوير في البرلمان، لذلك وجهت دعوة للنواب للتصوير في مكان آخر.
وقال "لبى الطلب ثلاثة نواب من حركة النهضة، ونائبة واحدة مستقلة. هل أصور أم لا؟ أنا اخترت التصوير، وليس في الأمر أي انحياز".
ولفت إلى أن "هناك كرها لهذا التيار (الإسلاميين)، لو أتيت مكانهم (النواب الأربعة) بعبير موسي (رئيسة حزب الدستوري الحر) فهل يرفضون؟ لا، أكيد سيقبلون".
ـ الجري وراء الأرشيف
بربوش، أوضح أن فيلم "التونسية" روائي وثائقي استغرق إنجازه مدة طويلة، "لأنني غادرت البلاد في 1990".
وتحدث عن صندوق وثائق بشيرة، الذي رآه أواخر الثمانينيات، ولم يجده بعد عودته إلى البلاد عقب ثورة 14 يناير 2011.
وعن أهمية هذه الوثائق، يشير المخرج التونسي إلى أن "الصندوق كان مليئا، وفيه تقريبا حياتها كلها من صور ورسائل وصولات ومحاضر الجلسات".
ويقول بربوش، إن "الوثائق التي كنت أتصور أن أجدها في تونس لم أجدها، لأن الصندوق استولى عليه مجهول".
وأضاف: "بعد ذلك بدأت التفتيش عن وثائق أخرى في أماكن متعددة، لأني لم أجد سوى أوراق بسيطة، وفي معهد تاريخ تونس المعاصر (حكومي) لم أجد شيئا فاضطررت إلى السفر إلى باريس للبحث عن الوثائق".
وعن لقاءاته بالناشطة النسوية، لفت بربوش، إلى أنه قابل بن مراد، عدة مرات بين 1988 و1990، وسَجل معها.
واستدرك "لكن أرشيفي كله حجزته وزارة الداخلية في 1990. شاحنة كتب ووثائق ونحو 3 آلاف و500 فيديو لأفلام".
وأردف "الشرطة بقيت 18 يوما في بيتي، انتظارا لعودتي، للقبض عليّ".
** الذاكرة ضد النسيان
وبشأن إصراره على إنجاز فيلم عن هذه المناضلة النسائية التي لا يعرفها كثير من الناس، قال بربوش، في الفيلم "لم أهتم ببشيرة فقط، بل وبما أفرزته من ظاهرة التنظيم النسائي المستقل زمن الاحتلال"
وأضاف "الفيلم واجب الذاكرة ضد النسيان والتناسي، وهو ثأر التاريخ، وثأر شخصي لها".
وتابع "بداية علاقتي ببشيرة، كان في إطار برنامج كنت أريد إنجازه حول الذاكرة الوطنية".
وفي هذا الصدد، قال بربوش، "كان هناك رجال ونساء ساهموا في الحركة الوطنية، وكنت أخشى أن يأخذهم الزمن دون أن يدلوا بشهاداتهم".
ـ المؤثرة
واستمر بربوش، في شرح أسباب الاعتماد على بشيرة، في رواية التاريخ الوطني، قائلا "زرتها لأن عبد الحق الأسود (مسؤول سابق في الحزب الدستوري الاشتراكي)، قال لي: إنها من الثقات، وإنها عاصرت الحركة الوطنية و(الرئيس الأسبق لحبيب) بورقيبة وصالح بن يوسف، والشخصيات التي درست بفرنسا ورجعت للبلاد، لإمساك زمام الحكم (بعد الاستقلال في 1956)".
وأضاف "هناك رسالة بين منجي سليم (قيادي في الحزب الدستوري الحر الجديد في عهد الاستعمار) وبشيرة، يطلب منها التدخل لدى الفرنسيين لاستعادة مطبعة أخذوها تقتات منها 5 عائلات، وفعلا أرجعت المطبعة".
وحول الحظوة التي كانت لبن مراد، لدى الفرنسيين، قال بربوش، إن "لها نفوذا يتأتى من ذكائها في التعامل معهم".
ويبين، أنها "كانت تصبغ على عملها السياسي طابعا خيريا، فجمعت (حولها) زوجات قيادات فرنسية، منهم جنرالات وعقداء وعائلات كبيرة".
وأردف "كانت تجمع المال بذكاء كبير جدا في صفاقس (جنوب) بدعوة العائلات الكبرى الثرية لحفلات خيرية، وكذلك الأمر في تونس العاصمة".
وتابع بربوش، أن بشيرة، "لها علاقات بالباي محمد الأمين باي (آخر باي تونسي قبل إعلان الجمهورية في 1957) والأميرات صديقاتها".
- خلافات مع بورقيبة
وحول تفسيره لإقصائها بعد الاستقلال، وموتها في منزل بسيط في "حمام الأنف"، الضاحية الجنوبية للعاصمة، قال بربوش، "لا أحد كان يعرف بشيرة بن مراد، لعدة أسباب".
واستطرد "السبب الأول الأكثر خطورة أن بشيرة طالبت، في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1955، بحق المرأة في الترشح والانتخاب، فبعث بورقيبة لها بنات أخته وراضية الحداد (قيادية في الحزب الدستوري) ليطلب منها الصمت".
أما السبب الثاني، وفق بربوش، فإن "بورقيبة، من خلال الوثائق والشهادات، ليس هو من حرر المرأة، بل هناك نساء قبله حررن المرأة، على رأسهن بشيرة".
وأشار المخرج، إلى أن بشيرة "طالبت الشيخ الفاضل بن عاشور، الذي كان يدير التعليم الزيتوني، بحق البنات في الدراسة والخروج مثل الرجال، وهذا كله تم قبل بورقيبة، الذي يعتبر نفسه محرر المرأة الأول".
وثالث أسباب إقصائها بعد الاستقلال، وفق بربوش، أن "بورقيبة، طلب يد بشيرة، بعد وفاة زوجها عام 1949، وقال لها: أنت زعيمة النساء، وأنا زعيم الرجال، تعالي نضع اليد في اليد ونتزوج".
ويتساءل: "هل أراد بورقيبة دخول نادي "البَلْدية" (أرستقراطية مدينة تونس العتيقة)؟ أم يريد الزواج من عائلة كبيرة حسينية؟ (بايات حكموا البلاد من 1705 إلى 1959) فأم بشيرة بن مراد بنت بلخوجة، من أصول تركية وحسينية".