يبقى السرد ذلك اللغز الذي لا تمنحه الكتابة سوى جزءاً يسيراً ليقول ما تمور به نفس الكاتب؛ وهو ما يشعر إزاءه برغبة الكتابة؛ في ما يمنحه التلقي (القراءة) عوالم مختلفة يتكشف فيها السارد، كما لم يكن حين كتابتها، وهنا تتجلى أهمية التلقي كفعلٍ إبداعي موازٍ.
في مجموعته القصصية «الرجاء عدم القصف» الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة في القاهرة، يظهر القاص لطف الصراري سارداً مقتدراً على البوح (كصنعة) والتحليق في فضاءات واقعه اليمني (كقضية)؛ وذلك من خلال قص يقرأ بكثافة واقعا مثقلا بالألم؛ وهي قصص يكتشف من خلالها القارئ أبعاداً جديدة لمشكلة اليمن في علاقته بالحاضر، وبالتالي المستقبل.. على الرغم مما في معالجاته الموضوعية من إشكالات لا تقلل من قيمة العمل.
أما على الصعيد الفني فقد تميزت المجموعة بقدرة الكاتب على تخليق شخوصه ومنحها تحولاً وتصاعداً (نسبياً) توهج معه البناء؛ فاحتفظت القصص بجاذبية يبقى معها التلقي متواتراً… بما في ذلك القصص الطويلة التي كان يُفضل اختزالها وتكثيفها؛ فثمة ما كان يستدعي ذلك في بنيانها، وإن كان التطويل في بعضها ذكياً، حافظ، من خلاله، الكاتب على روح السرد، على الرغم من طغيان الوصف على درامية الحدث في بعضها، وإن كنتُ لا أجد مبرراً للاشتغال مع إحدى قصص المجموعة في قصتين بعنوانين مختلفين، وأقصد هنا قصتي «ملك الزينوب» و»جزيرة الشهداء» على الرغم من أن الفاصل الزمني بينهما خمسة شهور؛ وهذا لا يمنع من استيعاب القصتين في قصة واحدة مكثفة، لاسيما وإن موضوعها هو الحرب في مرحلتين مختلفتين.. وهنا نؤكد على أن الكاتب قد خصص القصة الأولى لإلقاء مزيد من الضوء على آثار حرب صيف 1994 على ضباط الجيش الذين تم تسريحهم وفصلهم من قبل النظام حينها، في سياق تناول الحرب الأخيرة؛ في ما خصص القصة الثانية للمرحلة الثانية من الحرب الأخيرة التي شهدتها مدينة عدن؛ وهي ما سماها الكاتب (الحرب بأثر رجعي) ويعني بذلك المواجهات التي نشبت بين الفصائل والميليشيات المسلحة، التي حاربت بشكل موحد ما كانوا يسمونه بقوات (الحوافيش) بالإضافة إلى إبراز ما ترتكبه غارات طائرات التحالف.
قد لا نختلف كثيراً مع الكاتب في هذا التقسيم الموضوعي إلا أن التطويل (الترفي) كان متوفراً في قصصٍ أخرى، كان يمكن اختزالها وتكثيفها، لكن التطويل كشف لنا، في الوقت ذاته، عن مدى مهارة الكاتب السردية، لاسيما وإن التطويل يمثل اختباراً للسارد، وبقي في قصصه ممسكاً بصولجان الفكرة والحدث والشخصية، ولم يفقد السيطرة على وهج السرد، وهذا يُحسب له.
في ثلاث عشرة قصة ضمتها المجموعة، تنقّل بنا السارد بين عدة موضوعات، واللافت أن المجموعة كانت بحاجة إلى تبويب موضوعي؛ وهو أمر لا يقلل من القيمة الموضوعية والفنية للمحتوى السردي، وإن كان ثمة فجوة يشعر بها القارئ، وهو يبدأ مع القصص الأولى، متتبعاً معاناة اليمنيين الراهنة مع الحرب؛ وهي قصص تميز فيها السارد في التعامل مع جزئية حساسة جدا، هي ما تفقده الذات الإنسانية خلال الحرب من معان تتغير معها علاقتها بالواقع؛ وهو ما أجاد السارد الاشتغال عليه في القصص الأربع الأولى، بدءاً من قصة «المجنون الذي يتكلم الإنكليزية» وإن تجاوز فيها وصف ملامح بطل القصة فلم نتعرف عليه جيداً، وانتقالاً إلى قصة «الرجاء عدم القصف» ، ومن ثم قصتي «ملك الزينوب» و»جزيرة الشهداء» وتوقفاً عند قصة «إلى بوكوفسكي»؛ وفي الأخيرة يبث السارد خطاباً يُعيد من خلاله فلسفة رؤيته تجاه الحرب، وما يترتب عليها من أزمة يعيشها الناس.. وهي قصة على ما فيها من خطابية عالية على حساب السرد الدرامي، كانت بثا حزيناً لما تعيشه البلاد من ويلات بسبب الحرب.
ما أشرنا إليه من فجوة سيشعر بها القارئ، وهو ينتقل من قصص الحرب إلى القصص الأخرى، فقصص الحرب كانت مثقلة بحمولة إنسانية عالية نجدها دون ذلك في بقية القصص. وبالتالي كان يمكن وضع قصص «يوم حافل بسنوات متشابهة» و»دفء معلب» و»وردة رصيف» في تبويب مختلف، ومثله قصص «الموقد» و»الرجل الأنيق» و»محفوظ الطلياني» و»ناجي أحمد» و»طفل الصعتر».. سيلاحظ القارئ أن كل مجموعة من هذه القصص تختص بإشكالية في حياة المجتمع اليمني، في علاقته بالحرب والسلام والحياة، وغيرها من المفردات التي تفرض نفسها كعامل أساس في صناعة البؤس اليمني.
ويمضي الخطاب السردي مناقشاً إشكاليات عديدة في كل قصة من قصص هذه المجموعة، ويبرز الخطاب متميزاً كثيراً، بل يبدو أن الخطاب تمركز كمتن من خلال الوصف، لكنه لم يؤثر على بناء الأحداث ومسار الشخصيات.
على صعيد التقنية والبناء التزمت قصص المجموعة مساراً واحدا في تكنيك النص؛ وهو تصاعد الحدث الدرامي، والاشتغال المكثف على ثنائية الدراما والعقدة كأداتين لازمتا السارد في جميع قصص المجموعة باستثناء قصص «إلى بوكوفسكي» و»يوم حافل بسنوات متشابهة» و»دفء معلب» و»ورود ورصيف» إذ تراجعت العقدة على حساب الخطاب. كما عكست بعض قصص المجموعة تجربة متميزة للكاتب في الاشتغال على شخصياته، كما في القصص التي اشتغلت على الحرب؛ بدءاً من اشتغاله على المكان كمسرح لحرب ضحيتها الإنسان، بدءاً من مقهى، كما في القصة الأولى، وفي جانب من قرية، كما في القصة الثانية، وفي جزء من مدينة، كما في القصتين الثالثة والرابعة، وفي الوطن كإنسان، كما في القصة الخامسة. كما أن اشتغال السارد على الشخصيات مع تنوع أماكنها وخلفياتها، واللغة مع تشكلها بين العامي والفصيح، كان متميزاً، وإن دخلت عليها بعض المفردات الغريبة على اللهجة اليمنية، كما ورد في قصة «جزيرة الشهداء» في رد فريد عبد النبي لأحد مسلحيه بقوله «عادي يا راجل كلنا أخوة» فكلمة (راجل) ليست من اللهجة اليمنية. وعلى الرغم من تراجع الحوار في مجمل القصص، إذ لم يأخذ مساحة واضحة مقابل تمدد الوصف وما أحدثه من تشويش أحياناً…إلا أن السرد، على ترفيته أحيانا، كان جميلاً، وعكس ملكة سردية للكاتب؛ وهو ما نكتشف من خلاله توثباً نحو الرواية؛ وهو ما تعكسه القصتان الثالثة والرابعة.
على صعيد الخطاب السردي التقت جميع القصص في محاورة الواقع الاجتماعي والثقافي اليمني، من خلال محورين: الحرب، وحياة المجتمع.. وهنا استطاع السارد الاقتراب من جوانب معينة من مأساة الحرب، من خلال تركيز عدسته على بعض الزوايا، انطلاقاً من معاناة المجتمع اليمني عموماً، بدءاً من قصة «المجنون الذي يتكلم الإنكليزية» مروراً بقرية (بركان سحابل) بطل قصة «الرجاء عدم القصف» ومحاولته إنقاذ بيته من قصف الغارات الجوية، ليفشل في الأخير. كما سلط السارد عدسته على ضحايا الحرب الذين هم في الغالب من المدنيين؛ وهو ما اتضح بوضوح في قصتي «ملك الزينوب» و»جزيرة الشهداء»؛ وهنا ربط السارد بين واقع الحرب في عدن في مارس/آذار عام 2015، وما شهدته المدينة في حرب صيف 1994، انتقالاً إلى ما شهدته المدينة بعد خمسة شهور من مواجهات بين الفصائل المسلحة التي واجهت من سموهم بـ(الحوافيش).
مشاهد مؤلمة استطاع السارد الاقتراب من بعض وقائعها وتصويرها بمستوى تتجلى من خلاله معاناة إنسانية قاسية يعيشها مجتمع الحرب. كما استطاع الكاتب في بقية القصص محاورة عددٍ من القضايا، التي تشكل وجوهاً أخرى لمعاناة المجتمع اليمني؛ ففي قصة «طفل الصعتر» اختزل السارد معاناة طفولة يمنية تدفع ثمناً باهظاً لتجاهل سياسي واقتصادي واجتماعي لا حدود له، كما يمكن التوقف قليلاً عند قصة «الموقد» ونشاهد ما يعانيه بطل القصة عمر سعيد ناصر، وهو عامل بالأجر اليومي، ويواجه التزامات معيشة قاسية، ويكفي التوقف عند فقرة اختزل فيها الكاتب جانب من معاناة قاسية: «بخطوات بطيئة صعد عمر المنحدر الترابي المؤدي إلى البيت، وهو يتذكر الشكولاته أكثر من أي اجتماع آخر، وعلى أي حال لن تجد الشكولاته وقتا غير هذا كي تحظى لوهله بالاحترام من قبل رب الأسرة الغارق في عطالة تتربص به كل يوم في جولة العمال، تباطأت خطاه أكثر قبل وصوله منتصف المنحدر، لكن الكآبة كانت تذرع وجهه بسرعة سحابة في موسم رياح، وفي حالات كهذه تظهر طبيعته التي تميل إلى التفكير برثاء الحال والشعور بالألم لأجل الصغار، أكثر من النقمة، أو مغالبة الشعور بالعجز عن طريق حياة الغضب».
ويمضي الخطاب السردي مناقشاً إشكاليات عديدة في كل قصة من قصص هذه المجموعة، ويبرز الخطاب متميزاً كثيراً، بل يبدو أن الخطاب تمركز كمتن من خلال الوصف، لكنه لم يؤثر على بناء الأحداث ومسار الشخصيات.
بلاشك يمكن تجاوز ما شاب السرد؛ لنقول إن السارد استطاع بوعي أو دون وعي إبراز بعض ملامح المتن اليمني الراهن؛ لنقول إن ما يشهده اليمن يحتاج الكثير لتجاوز أزمته؛ لأن «الأزمة تقتل من لا تقتله الحرب. وهنا يباع كل شيء في السوق السوداء.. لأن حالة الاحتراب بين جماعات مسلحة في غياب الدولة وعلى أنقاضها جعل كل شيء أسود، وهنا تمتص السوق السوداء دماء الجانحين للسلم بلا استثناء، تمتص دماءهم لتمويل المجهول الحربي للعصابات».
تستدعي هذه المجموعة من الكاتب استمراراً في مناوشة السرد اشتغالاً على اللحظة اليمنية، التي أصبحت أكثر مأساوية؛ فالقصص القصيرة قادرة على محاورة كثير من الإشكالات والقضايا الصغيرة في حياة أكثر مما يستطيع عليه جنس أدبي آخر.