ما بعد مقتل زعيم مجموعة فاغنر العسكرية الروسية يفغني بريغوجين ليس كما قبله، إذ لم تعد مجرد شركة خاصة لا تخضع للقانون الروسي، بل أصبحت جزءا منه بعد أداء عناصرها "قسم الولاء" للدولة الروسية، ومن شأن ذلك أن ينعكس إيجابا أو سلبا على نفوذ موسكو في الدول العربية والإفريقية.
ففي الأول من سبتمبر/ أيلول الجاري، وبعد يومين من مراسم دفن بريغوجين، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما بأثر فوري، يدعو فيه جميع عناصر فاغنر وغيرهم من المتعاقدين العسكريين الروس إلى "أداء قسم الولاء للدولة الروسية".
هذا المرسوم الرئاسي يعني ضمنا اعتراف موسكو بقانونية وشرعية فاغنر، رغم إصرار الرئيس بوتين، في وقت سابق، على أن "فاغنر لا وجود لها".
ويمكن لهذه الخطوة أن تعزز رقابة موسكو على نشاطات فاغنر في الدول العربية والإفريقية التي تنتشر بها، لكنه بالمقابل من شأنه أن يفتح الباب أمام حكومات هذه الدول، أو منظمات وأشخاص لرفع دعوى قضائية ضد روسيا بشأن جرائم تتهم فاغنر بارتكابها، أو مطالبة موسكو رسميا بسحب عناصر الشركة من أراضيها، على غرار الحالة الليبية.
وينتشر عناصر فاغنر والمليشيات الموالية لها في كل من سوريا وليبيا وبدرجة أقل في السودان، أما في إفريقيا جنوب الصحراء فتواجدهم بشكل بارز في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى، ومالي، وبشكل محدود في موزمبيق، مع احتمال وصولهم إلى اتفاق مع بوركينا فاسو، وهو ما تنفيه الأخيرة.
ويُعد توصل فاغنر إلى اتفاق مع المجلس العسكري في النيجر أمرا واردا، في ظل توتر علاقته بفرنسا.
وبعد مصرع بريغوجين إثر حادث سقوط طائرة في 23 أغسطس/ آب المنصرم، والذي تنفي موسكو ضلوع الكريملين فيه، تطرح تساؤلات عن مدى تأثير ذلك على نشاط فاغنر في الدول العربية والإفريقية التي تتواجد بها.
ـ فاغنر مستمرة في إفريقيا والدول العربية
زيارة نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف، إلى كل من سوريا وليبيا، تجيب بوضوح عن هذه التساؤلات، بأن فاغنر مستمرة رغم تغيير قيادتها.
فوفق تقرير لوكالة "بلومبرغ" الأمريكية، فإن الزيارة جاءت "من أجل فرض السيطرة الحكومية على العمليات التي تم التعاقد عليها مسبقًا مع فاغنر، قبل مصرع بريغوجين".
فموسكو أخذت قرارا بالسيطرة على إمبراطورية فاغنر، ووضعها تحت وصاية وزارة الدفاع، حتى قبل مقتل بريغوجين، أوحتى قبل تمرده في 23 يونيو/ حزيران الماضي، عندما دعت عناصر فاغنر للتعاقد معها.
وكان بإمكان بوتين، حل شركة فاغنر وجميع فروعها، لكن ذلك من شأنه أن يفقد موسكو كل النفوذ الذي حققته في الشرق الأوسط وإفريقيا بفضلها، وسيجبر الجيش الروسي على التدخل عسكريا بطريقة فجة، على غرار التواجد العسكري الفرنسي في مالي والنيجر، وسيضيق عليه فرص المناورة السياسية والإعلامية.
ـ ضبط الإيقاع في سوريا
إحدى المشكلات التي واجهت الجيش الروسي مع تحركات فاغنر في سوريا، نقص التنسيق الذي تسبب مرة في مقتل وإصابة نحو 300 عنصر من فاغنر، في 8 فبراير/ شباط 2018، إثر قصف جوي ومدفعي أمريكي مكثف على رتل للشركة الروسية والمتعاقدين معها تقدموا نحو شرق نهر الفرات، في مناطق سيطرة تنظيم "قسد" الإرهابي.
وتنصلت وزارة الدفاع الروسية سريعا من الحادثة، واعتبرتها "عمليات استطلاع وتفتيش للقوات السورية لم يتم تنسيقها مع قيادة مجموعة العمليات الروسية في قرية الصالحية، وأنه لا يوجد جنود روس في هذه المنطقة من محافظة دير الزور السورية".
بينما اتهمت "فاغنر" الجيش الروسي بعدم توفير غطاء جوي لعناصرها بعدما وعدهم بحمايتهم من المقاتلات الأمريكية.
وسبق لفاغنر في مناسبات أخرى بين 2016 و2017، أن اتهمت الجيش الروسي علنا بعدم تزويدهم بالذخائر الكافية ما تسبب لهم بخسائر كبيرة في عدة معارك بسوريا.
وعند تمرد فاغنر في يونيو الماضي، تحركت وزارة الدفاع الروسية بسرعة لمنع انتشار التمرد بين صفوف عناصر المجموعة في سوريا، واتخذت عدة إجراءات احترازية في هذا الصدد.
وبعد مصرع بريغوجين، أصبح بإمكان وزارة الدفاع الروسية ضبط إيقاع عملياتها في سوريا، بعد أن فرضت على عناصرها التعاقد معها، وبالتالي لن يكون بإمكان فاغنر التعاقد مباشرة مع وزارة الدفاع السورية، ولا القيام بأي عمليات سرية دون موافقة أو تنسيق معها.
ـ طرد فاغنر من ليبيا.. هل أصبح ممكنا؟
بعدما أصبحت تبعية قوات فاغنر لوزارة الدفاع الروسية، فإن الضغط الدبلوماسي على موسكو أصبح ممكنا لسحب عناصر شركتها العسكرية من ليبيا.
فبعكس النظام السوري الذي تنشط فاغنر في مناطق سيطرته بموافقته، فإن المجلس الرئاسي الليبي، وحكومة الوحدة، المعترف بها دوليا، وحتى لجنة 5+5 العسكرية المشتركة، التي تضم ممثلين عن الجيش الليبي ومن يقابلهم من قوات الشرق بقيادة خليفة حفتر، جميعهم يطالبون برحيل المقاتلين الأجانب بمن فيهم عناصر فاغنر.
ورغم توقف الحرب في ليبيا منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وعدم الحاجة الماسة إلى خدمات فاغنر، فإن هناك قلقا من إمكانية انقلاب فاغنر على حفتر إذا مورست عليها ضغوط، وفق المحلل السياسي عز الدين عقيل، الداعم لقوات الشرق.
لكن تحول فاغنر من شركة عسكرية خاصة إلى مجموعة مسلحة خاضعة لسلطة وزارة الدفاع الروسية، يجعل الأمور أسهل لحكومة الوحدة أو المجلس الرئاسي للتفاوض مع موسكو بشأن سحب عناصر فاغنر من ليبيا.
كما يمكن للسلطات الليبية التحرك قضائيا وجنائيا لتحميل روسيا مسؤولية الجرائم التي ارتكبتها فاغنر في الأحياء الجنوبية للعاصمة طرابلس، عندما زرعت عددا كبيرا من الألغام قبل انسحابها منها نهاية مايو/ أيار 2020، ما خلف عددا من القتلى والجرحى، في الأشهر التي تلت الانسحاب.
ـ "حميدتي" خسر حليفا استراتيجيا
في السودان، يتهم بريغوجين بالوقوف وراء شحنات صواريخ أرض جو التي تسلمتها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" في الأسابيع الأخيرة، وساهمت إلى حد ما في تقليص هيمنة الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان على سماء المعركة.
فتمكن قوات الدعم السريع من إسقاط عدة مروحيات وطائرات حربية في الأسابيع الأخيرة تؤكد تسلمها شحنة صواريخ مضادة للطائرات من جهة مجهولة، يعتقد على نطاق واسع أنها فاغنر، التي لها شراكة مع "حميدتي" في تعدين الذهب عبر شركة "آم أنفست".
لكن تسليم فاغنر "المزعوم" لشحنات صواريخ أرض جو إلى "حميدتي"، لم يلق على الأغلب ضوءا أخضر من موسكو، التي استقبلت نهاية يونيو الماضي، مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، الذي نفى تواجد فاغنر في بلاده، لكنه حذر من تواجدها في دول الجوار.
حيث صدرت تقارير غربية تتحدث عن تسلم قوات الدعم السريع أسلحة وذخائر من فاغنر عبر قواعدها في ليبيا، وهو ما نفته قوات الشرق الليبي في حينه.
غير أن مصرع بريغوجين وسعي وزارة الدفاع الروسية للسيطرة على فاغنر وجعلها أكثر تبعية من شأنهما إضعاف "حميدتي" وتجفيف مصدر مهم لتزود قواته بالأسلحة النوعية، ما قد يفقد القدرة على مواصلة الحرب في العاصمة الخرطوم مدة طويلة.
وهذا الاستنتاج توصلت إليه دراسة لمعهد الشرق الأوسط (أمريكي)، التي اعتبرت أن "مصرع بريغوجين يمكن أن يزيد من قيود سلسلة توريد الذخائر الخاصة بقوات الدعم السريع".
وأضافت أن "هذه القيود يمكن أن تزيد الشكوك في استدامة عمليات حميدتي الهجومية ضد القواعد العسكرية التي تسيطر عليها القوات السودانية".
ـ روسيا لن توقف تمددها بالساحل
غياب بريغوجين عن المشهد العالمي، من المرجح أن لا يوقف رغبة روسيا في التمدد بالساحل الإفريقي بل في كامل إفريقيا جنوب الصحراء، لإحياء أمجاد الاتحاد السوفيتي في القارة السمراء خاصة في فترة الستينيات والسبعينيات عند دعم حركات التحرر والدول حديثة الاستقلال.
فانتشار فاغنر في مالي منح روسيا موطئ قدم في منطقة الساحل، تسعى للتمدد بعدها إلى بوركينا فاسو، ولم لا للنيجر؟ مستغلة موجة الانقلابات التي تشهدها المنطقة، وحالة العداء الشعبي للاستعمار الفرنسي السابق.
فلا شيء يدعو موسكو إلى سحب عناصر فاغنر من مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، خاصة وأن نشاطها ليس مقتصرا على تقديم خدمات أمنية مجانية، بل بمقابل مالي وأيضا رخص لتعدين الذهب والأحجار الكريمة.
بينما استعانت مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى بخدمات فاغنر، من أجل حماية النظام الجديد سواء كان عسكريا أو مدنيا، ولتعويض إخفاق القوات الفرنسية في تحقيق الاستقرار، ومواجهة الجماعات الإرهابية والمتمردة.
ونجحت فاغنر في تثبيت حكم رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى فوستان آرشانج تواديرا، الذي يحكم البلاد منذ 2016، لكنها أخفقت بالمقابل في القضاء على الجماعات الإرهابية في مالي، التي تسيطر على نحو 40 بالمئة من مساحة البلاد، وفق وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو.
وسواء في مالي أو إفريقيا الوسطى، تتهم واشنطن وباريس فاغنر بارتكاب جرائم قتل في حق مدنيين، وهذا ما لا يشجع الجيش الروسي على الدخول بثقله في إفريقيا، ويفضل إبقاء فاغنر في الواجهة لتحمل أي أخطاء أو جرائم ترتكب، وعدم تحمل أي أعباء جنائية أو مالية.
إلا أن "عدم الاعتراف بوجود فاغنر قانونا"، لن يكون مجديا كثيرا بعد أن أصبحت تابعة لوزارة الدفاع الروسية، وعناصرها متعاقدون معها، وأدوا قسم الولاء للدولة، ما يضع موسكو أمام موقف صعب للجمع بين متناقضين؛ السيطرة على فاغنر وعدم تحمل تبعات جرائمها أو هزائمها.
كما أن فاغنر في عهد بريغوجين كانت أكثر مرونة وتحررا في اتخاذ بعض القرارات، أما بعد أن أصبحت تبعيتها لقيادات في وزارة الدفاع، فإنها مجبرة على الالتزام بقواعد انضباطية وأساليب بيروقراطية من شأنها إبطاء اندفاعها المعهود في اقتحام مناطق النزاع سواء في الدول العربية أو إفريقيا جنوب الصحراء.