في عام 1902 تأسست ما عرفت ب"كلية غردون التذكارية" ، وهي التي أسسها اللورد كتشنر الحاكم العام للسودان ؛ تخليدا لذكرى "تشارلز غردون" الحاكم العام البريطاني للسودان الذي قتله رجال "الثورة المهدية" في الخرطوم يوم سقوطها على أيديهم في 26 يناير 1885 بعد حصار قارب 10 أشهر .
التأسيس والتطور على مدى حقب السودان التاريخية
وفقا لموقع جامعة الخرطوم ، فإن بداية فكرة تأسيس كلية غردون التذكارية التي تحولت لاحقا ل"جامعة الخرطوم" ، ترجع جذورها إلى عام 1898 عندما اقترح اللورد كيتشنر ، تأسيس كلية تخليدا لذكرى الجنرال غردون.
جمعت الأموال الخاصة بالكلية المقترحة عن طريق الاكتتاب الخاص ، ورسمت خطط البناء من قبل المهندس الخديوي فابريكس باشا (Fabricus Pasha) .
افتتحت الكلية الجديدة المسماة بكلية غردون التذكارية رسميا في عام 1902 ، على الرغم من أنه لم تكتمل المباني ولم تقبل الدفعة الأولى من طلاب المرحلة الابتدائية إلا بحلول عام 1903.
ويضيف الموقع أن القصد من تأسيس الكلية لم يكن لأجل أن تكون مدرسة ابتدائية فقط بل أضيفت دفعة ثانوية في عام 1905 لغرض تدريب المهندسين المساعدين ومساحي الأراضي ، وفي عام 1906 أقيمت دورة دراسية مدتها أربع سنوات لتدريب معلمي المدارس الابتدائية.
في عام 1905 ، تبرع السير هنري ويلكم بمختبر مجهز بالكامل للتحليل البكتريولوجي ، وبهذا بدأ الارتباط المثمر بين الخرطوم ومعامل ويلكم للأبحاث. في عام 1924 ، تطورت الكلية إلى مدرسة ثانوية مهنية تركز على تدريس التخصصات التالية: الشريعة ، الهندسة ، تدريب المعلمين ، الأعمال الكتابية ، المحاسبة والعلوم ، في نفس العام تأسست مدرسة كيتشنر للطب ، شهد عام 1936 بداية التعليم العالي في السودان بإقامة كلية الحقوق .
وبحلول عام 1940 شملت الكلية كل من مدارس الزراعة والآداب والقانون والعلوم والهندسة والعلوم البيطرية. تم إلحاق كل مدرسة بالإدارة الحكومية التي يتوقع أن يعمل الخريجين فيها.
وفي يناير 1945 تم وضع جميع هذه المدارس تحت إدارة واحدة في ترتيب خاص مع جامعة لندن.
تمت ترقية الكلية في عام 1951 لتصبح كلية الخرطوم الجامعية وفي نفس العام ، دمجت مدرسة كيتشنر للطب في الكلية الجامعية ، وكان الطلاب يخضعون لذات الامتحانات التي يخضع لها طلاب جامعة لندن وكانت جامعة لندن هي التي تمنح الدرجات للطلاب ، حصل الطلاب المتميزون على درجات البكالوريوس من جامعة لندن وحصل الآخرون على شهادات الدبلوم.
وتعد جامعة الخرطوم بشكلها الحالي نتيجة للتحول الطبيعي لكلية الخرطوم الجامعية عند استقلال البلاد في عام 1956 ، وقد أقر البرلمان مشروع قانون منح الكلية الوضع الجامعي الكامل في 24 يوليو 1956 ، ومنذ ذلك الحين شهدت الجامعة توسعا كبيرا.
دور الجامعة في "الحركة الوطنية السودانية"
تعد جامعة الخرطوم بوصفها إحدى أعرق الجامعات العربية والإفريقية ذات دور طليعي في العملية السياسية في السودان وتعدى دورها ليشمل دولا أخرى .
في السودان شهدت الجامعة منذ سنواتها الأولى نشاطا واسعا للتنظيمات السياسية خاصة في مرحلة الحركة الوطنية قبل الاستقلال إذ لعب طلابها وخريجوها دورا مهما في التمهيد للاستقلال و التأثير على الرأي العام السوداني بضرورة محاربة الاستعمار وتحقيق الاستقلال السوداني الكامل .
وبرز دور الجامعة بمسماها القديم "كلية غردون التذكارية" في تعزيز القيم الثورية والنضالية لدى الشعب السوداني في مرحلة الاستعمار ، وفي هذا الإطار برز إضراب طلاب كلية غردون التذكارية عام 1931م ، وتعاقبت هذه المظاهر السلمية لتعبر عن دور و إسهام حقيقي لطلاب الجامعة في مسيرة الحركة الوطنية .
تأسس مؤتمر الخريجين عام 1938م وكان لطلاب كلية غردون التذكارية نصيب الأسد منه باعتبارهم النخبة المتعلمة والمثقفة وترأس المؤتمر خريج الكلية "إسماعيل الأزهري" ولم يقتصر دور الكلية في هذا المؤتمر بل تعداه للتأثير على كل معالم المشهد السياسي الذي سيطر عليه خريجو الكلية وكانوا قادة تلك المرحلة .
التأثير السياسي للجامعة في الحقب السياسية السودانية ما بعد الاستقلال
تحولت كلية الخرطوم الجامعية بعد الاستقلال لتصبح جامعة الخرطوم و كان أول مدير لها البروفيسور /نصر الحاج علي ، بعد الاستقلال انتظمت الأحزاب والكيانات السياسية والفكرية في عملية نشاط سياسي وحراك مستمر كانت جامعة الخرطوم مسرحا رئيسا له ، وشهدت ساحاتها تشكل أبرز التنظيمات السياسية والفكرية وأكثرها تأثيرا في السودان ، وتخرج منها السواد الأعظم من قادة العمل السياسي والنقابي والثوري في السودان ، وشهدت ساحاتها الخطوات الأولى لتأسيس معظم الحركات السياسية و التنظيمات الفكرية التي تصدرت المشهد السياسي لاحقا.
ثورة 21 أكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام إبراهيم عبود كانت دليلا واضحا على مدى تأثير طلاب جامعة الخرطوم في مشهد السياسة والحكم في السودان ، إذ بدأت الثورة بندوة أقامها طلاب الجامعة وانتهت بمقتل اثنين من طلابها هما "أحمد القرشي" الذي كان طالبا في كلية العلوم وهو أول شهداء ثورة أكتوبر وأيقونتها و الطالب في كلية القانون "بابكر عبد الحفيظ" ، لينتظم بعدها حراك ثوري قاده طلاب الجامعة بدءا بالقمع الذي جوبه به طلاب الجامعة في سكنهم الطلابي عبر إطلاق الرصاص عليهم ، وأدى هذا الحراك لإسقاط نظام عبود .
مرة أخرى لعب طلاب "الجميلة" دورا مهما في ثورة أبريل 1985 التي أطاحت بنظام جعفر نميري وقاد طلابها وخريجوها في النقابات العمالية حراكا واسعا ساهم في تعزيز روح الثورة ، وفي عهد الرئيس المخلوع عمر البشير كانت ساحات الجامعة مسرحا استضاف معارضي النظام وشهدت "أركان النقاش" جولات كثيرة من العمل الطلابي الرافض لاستبداد البشير ونظامه الذي كان امتدادا لاستبداد الأنظمة العسكرية السابقة ، وفقدت الجامعة في ثورة ديسمبر أحد أبنائها هو الطالب في كلية الآداب عبد الرحمن الصادق سمل الذي قتلته القوات الأمنية ليخلد اسمه في قوائم الشرف والفخار .
"الجميلة المستحيلة"
منذ تأسيسها كانت "الجميلة المستحيلة" منارة وقلعة يفخر بها السودانيون نسبة لكونها الرافد الأول لعملية الثقافة والنبع الذي نهل منه كل علماء السودان الذي سطروا أسماءهم وخلدوها في صفحات التاريخ السوداني .
"الجميلة" اسم ظل ملازما لجامعة الخرطوم ومعبرا عنها يستخدمه محبوها وطلابها ، ويرددونه معبرين عن حبهم لهذا الرمز السوداني الذي يعتبرونه يضاهي "العلم والنشيد الوطني" ، جامعة الخرطوم بالنسبة لهم ليست جامعة عادية بل هي رمز وطني كبير يعبر عن تاريخ السودان ومراحله المختلفة .
برز خريجو الجامعة في شتى الأصعدة وكانوا خير سفراء لجامعتهم في المحافل العالمية .
برز العديد من العلماء والخريجين المتميزين في جامعة الخرطوم ، ويأتي في مقدمة هؤلاء العلماء الذين أثروا الساحة السودانية وكان لهم دور كبير في النهضة العلمية السودانية ، البروفيسور عبد الله الطيب الكاتب والأديب السوداني المتميز والروائي العالمي الطيب صالح ،ورائد الطب النفسي في إفريقيا البروفيسور التجاني الماحي، و البروفيسور عون الشريف قاسم ، كما برع أساتذة جامعة الخرطوم في مختلف المجالات وكان لهم دور كبير في البحث العلمي ، ومن بينهم البروفيسور محجوب عبيد طه ، عالم الفلك السوداني وغيرهم الكثير من العلماء.
جامعة الخرطوم ليست جامعة عادية بل هي مدرسة نضالية وقلعة للمعرفة وساحة للثقافة والأدب ، وهي الصورة المثلى واللوحة الزاهية التي تعبر عن "السودان".