نشرت صحيفة "فوكس نيوز" الأمريكية تقريرا، مطلع يوليو/ تموز الماضي، مفاده أن دولة الإمارات عرقلت في اللحظات الأخيرة اتفاقا وشيكا، برعاية أمريكية، بين قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين، إضافة إلى مصر.
أبوظبي حثت الرياض على الانسحاب في اللحظات الأخيرة من الاتفاق، الذي كان يقضي بأن تفتح هذه الدول أجوائها أمام الخطوط الجوية القطرية، بعد أن أغلقتها ضمن حصار جوي وبحري وبري بدأ في 5 يونيو/ حزيران 2017.
بعدها بأيام أصدرت محكمة العدل الدولة، مقرها في لاهاي بهولندا، حكما برفض استئنافات تقدمت بها دول الحصار الأربعة (الإمارات، السعودية، البحرين ومصر) بشأن اختصاص منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو)، ومقرها في مدينة مونتريال بكندا، بشكاوى تقدمت بها قطر ضد إجراءات دول الحصار المقيدة لحرية الملاحة.
ونحاول في هذا المقال الوقوف على الأسباب والسياقات، التي تدفع الإمارات إلى عرقلة أي احتمالية لعقد اتفاقات قد تخفف من وطأة الحصار المفروض على قطر منذ أكثر من ثلاث سنوات:
مسارات تفاوضية فاشلة
لم تكن الوساطة الأمريكية الأخيرة هي المحاولة الأولى لرأب الصدع الخليجي، عبر التفاوض بين الدول الأربعة وقطر، للتوصل إلى اتفاق قد يخفف من الآثار الاقتصادية للحصار، خاصة بشأن حرية الملاحة الجوية.
ففي بدايات يوليو/ تموز الماضي، صرّحت السفيرة الأمريكية لدى الكويت، ألينا رومانوسكي، بأن إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تدعم جهود الوساطة الكويتية الممتدة لإحداث مصالحة خليجية.
تزامن هذا التصريح مع ما نشرته وكالة "بلومبرج" من أن الكويت تقود وساطة جديدة لحل الأزمة الخليجية، استنادا إلى مقترح تقدمت به الإدارة الأمريكية يتركز بشكل أساسي على رفع الحصار الجوي المفروض على قطر، خاصة من السعودية والإمارات المتاخمتين حدوديا لقطر.
وبشكل أساسي، تركّزت المجهودات الكويتية على التوصل إلى اتفاق بين قطر والسعودية من دون دول الحصار الأخرى، وهو ما أكدته تقارير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، في يونيو/ حزيران الماضي، عن ضغط إدارة ترامب على السعودية والإمارات لفتح المجال الجوي أمام الطيران القطري.
كذلك في أبريل/ نيسان الماضي، أعلن البيت الأبيض عن محادثات يجريها ترامب لحثّ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، على اتخاذ خطوات فاعلة لحل الأزمة الخليجية.
وفي فبراير/ شباط الماضي، أعلن وزير الخارجية الكويتي، خالد الجار الله، عدم نجاح الوساطة الكويتية لإنهاء الأزمة الخليجية، وأن الكويت تشعر بالإحباط.
وهو ما أكده وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بقوله إن جهود حل الأزمة، التي بدأت في ديسمبر/ كانون الأول 2019، مع السعودية والإمارات لم تنجح وعُلّقت.
وفي فبراير أيضا، قال وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، إن الدول المحاصرة لقطر كانت قد وعدت بتقديم دلائل على اتهاماتها للدوحة بدعم الإرهاب، لكنها لم تقدم شيئا.
بدا من الواضح تعدد المسارات التفاوضية، والتي شاركت فيها واشنطن بشكل مباشر أو حثت على إتمامها، عبر وسيط خليجي (الكويت) اتخذ موقف الحياد منذ اليوم الأول للحصار.
وحرص أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد، على إبراز الجهود الكويتية الرامية لرأب الصدع الخليجي، في مناسبات كثيرة، ليؤكد رغبة بلاده في إتمام اتفاق خليجي يعيد إلى البيت الخليجي وحدته.
وأكدت قطر، في أكثر من مناسبة، انفتاحها على أي جهود لإجراء حوار حقيقي وتحقيق اتفاق، لكن من دون شروط مسبقة كانت تضعها دول الحصار عقبة أمام فتح أي قنوات للحوار.
ما وراء مساعي ترامب
قد يُفسر الحرص الأمريكي على إتمام اتفاق، وليس مصالحة تامة، من أوجه عديدة، أهمها أن إدارة ترامب تريد تحقيق إنجاز قد تحاجج به في الانتخابات الرئاسية، في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وكذلك الرغبة الأمريكية في توحيد الصف الخليجي، تحسبا لاحتمال حدوث مواجهة مع إيران، التي تتمتع بعلاقات دبلوماسية وتجارية مع قطر زادت مع ظروف الحصار، خاصة على الجانب الاقتصادي.
وتستخدم قطر المجال الجوي الإيراني مقابل 133 مليون دولار سنويًا، واضطرت الدوحة إلى زيادة التبادل التجاري مع طهران إلى ملياري دولار، وفق إحصاءات إيرانية.
وارتفعت صادرات السلع الإيرانية إلى قطر، بعد الحصار، من 50 مليون دولار إلى 300 مليون دولار، وتتركز أساسا على سلع ضرورية كان الحصار قد أثر سلبًا على توافرها في قطر.
هذا الوضع فتح لإيران بابا للتنافس الاقتصادي تريد واشنطن إغلاقه بأي شكل، في ظل عقوبات اقتصادية أمريكية متزايدة على طهران منذ دخول ترامب البيت الأبيض أوائل 2017، ورغبته في إحكام حصار اقتصادي على إيران يردعها عما يعتبرها أنشطة عدائية.
يمكن أيضا فهم قوة المبادرة الأمريكية وإصرارها على بلوغ اتفاق خليجي بالرغبة في العودة إلى الساحة الخليجية دبلوماسا بقوة وحضور فعّال، بعدما ضعف التأثير الأمريكي في مجريات السياسة الخليجية.
كما تغوّلت قوى إقليمية ودولية أخرى في الخليج، مستغلة الضعف الأمريكي، من خلال مبيعات الأسلحة والاستثمارات المتنامية، فيما اقتصر الدور الأمريكي على تلّقي الأموال من الخليج وقت الحاجة، والتهديد بسحب أساطيل الحماية من الخليج العربي!
انتصارات قضائية قطرية
مع حكم محكمة العدل الدولية، في يوليو/ تموز الماضي، باختصاص منظمة "إيكاو" بالنظر في شكاوى قطر ضد دول الحصار، وبالتالي رفض استئناف الدول الأربعة، تكلل مسار قضائي دولي سلكته الدوحة بالنجاح في أروقة المحاكم الدولية.
ولم يكن هذا الحكم الأول من نوعه الذي تصدره المحكمة لصالح قطر، ففي يونيو/ حزيران الماضي، أصدرت المحكمة قرارا برفض طلبٍ للإمارات باتخاذ تدابير مؤقتة ضد قطر في قضية تتعلق بإجراءات تمييز اتخذتها أبوظبي بحق قطر ومواطنيها.
وفي ساحات قضائية دولية عديدة لم يختلف الأمر كثيرا عن قرار محكمة العدل الدولية، ففي أغسطس/ آب 2019، رفضت اللجنة الأممية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، ومقرها جنيف، اعتراض السعودية والإمارات بشأن اختصاص اللجنة بالنظر في شكوتين تقدمت بهما قطر.
وقبلها بأيام أعلنت الإمارات سحب دعوى رفعتها ضد قطر أمام منظمة التجارة العالمية بشأن تدابير قطرية "مزعومة".
وفي يوليو/ تموز 2018، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارا بالموافقة على طلب قطر اتخاذ تدابير مؤقتة ضد الإمارات تتعلق بمعاملة إماراتية تمييزية بحق القطريين.
مشروع إماراتي "تخريبي"
بات واضحا أن الإمارات تتحكم في مواقف دول الحصار الثلاثة الأخرى (السعودية، البحرين ومصر) تجاه قطر.
وتسوق دول الحصار إعلاميا، بزعامة إماراتية، حججا سبق وأن ضمنتها في قائمة من 13 مطلبا قدمتها لقطر، بعد أيام من الحصار، لكن الدوحة رفضتها، معتبرا إياها تدخلا سافرا في سيادتها ومحاولة للتأثير في شؤونها الداخلية.
وكذلك تحتج دول الحصار على سياسة قطر الخارجية الداعمة لدول "الربيع العربي"، والتي تقف دول الحصار في الجهة المقابلة منها.
وطوال المسار التفاوضي، عمدت قطر إلى تفتيت الصف المحاصر وإدارة الحوارات والنقاشات على حدة.
وبدأت قطر مع السعودية، التي بدا أنه من الممكن الوصول إلى نقاط التقاء معها، خاصة فيما يتعلق بفتح المجال الجوي، لاسيما وأنها تتشارك مع قطر في حدود برية، وذلك بالتزامن مع ضغط أمريكي على الرياض بدا ناجعا في بعض الأحيان.
لكن كان واضحا أن حجم التأثير الإماراتي في قرار السعودية أكبر من أن يتيح لها الاستقلالية في إبرام اتفاق منفرد مع قطر.
وما أمكن استنتاجه من تقرير "فوكس نيوز" الأخير هو أن القرار السعودي أصبح يُتخد من أبو ظبي، وليس من الرياض! وأن الإمارات قادرة على مواجهة الضغط الأمريكي من خلال جماعات الضغط التي تمتلكها في واشنطن، والتي تدفع لها بسخاء لتمرير قرارات في صالح المشروع الإماراتي في المنطقة.
لذا فإن الرفض الإماراتي الواضح لأي فرصة لعقد اتفاق مع قطر، لا يمكن تفسيره بعيدا عن زاوية "الدور" الذي تريد الإماراتي من خلاله فرض السيطرة الإقليمية أو "اللحظة الإماراتية العربية"، التي تسعى أبوظبي لفرضها، بالقوة بدءا من محيطها العربي.
وبذلك، تسعى الإمارات إلى أن تكون أبوظبي هي عاصمة القرار العربي، وليس القاهرة أو بغداد أو دمشق، ومن ثم فإن أي قوة إقليمية أخرى يجب أن ترتدع ضمن المشروع التخريبي، الذي تقوده الإمارات، والذي ساعد الانقلاب في مصر، عام 2013، ويساعد انقلاب الجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، في ليبيا منذ 2014، ويسعى إلى تقسيم اليمن.
تريد أبوظبي أن تعلن الدوحة رضوخها بأي شكل من الأشكال لمطالب الإمارات، التي تبدو بشكل واضح لي لذراع السيادة الوطنية، التي تدافع عنها قطر.
وتخوض الإمارات في ذلك أسلوب حرب القبائل المتناحرة، لا الدول الوطنية ذات السيادة، في حين تحقق قطر انتصارات قضائية دولية، وهو ما يبدو تأكيدا على امتلاكها لأدوات السيادة الوطنية التي تمكنها من أخذ حقوقها عبر المؤسسات الدولية، وكذلك عدم إهمال أي باب تفاوضي، دون شروط، قد يؤدي إلى مكاسب اقتصادية، خاصة المتعلقة بحرية الملاحة الجوية.
لا يبدو أنه سيتم في المستقبل المنظور التوصل إلى أي اتفاقات خليجية، طالما بقي التعنت الإماراتي القادر على اتخاذ قرار السعودية من أبو ظبي وليس من الرياض، والقادر أيضا على إفشال الوساطة الأمريكية في ظل إدارة ترامب، عبر الدفع للوبيات مؤثرة في واشنطن.
لذا لا يمكن التوصل إلى اتفاق خليجي، برعاية أمريكية، من دون التأثير على الإمارات للدخول في حوار حقيقي بلا شروط يمكن من خلاله تحقيق اتفاق اقتصادي دونما مصالحة شاملة.