مع هذه السلسلة من الهزائم العسكرية التي مُنيت بها قوات اللواء المتمرد خليفة حفتر، تكون قوات الحكومة الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة قد فرضت سيطرتها على كامل الغرب الليبي بعد مضي أكثر من 14 شهرا على إعلان حفتر الهجوم الواسع على العاصمة طرابلس في أبريل من العام الماضي، حيث حققت قواته على إثر ذلك تقدما تدريجيا بطيئا باتجاه العاصمة قبل أن تعقد الحكومة الليبية اتفاقا للتعاون مع الحكومة التركية في 26 نوفمبر من العام الماضي لتقديم الدعم العسكري.
وأدى الاتفاق الى تغيير كبير في موازين القوى العسكرية لصالح الحكومة بالتقدم واستعادة المواقع الاستراتيجية في غرب وجنوب طرابلس.
وتدعم كل من الإمارات وروسيا ومصر قوات خليفة حفتر بشكل أساسي، بجانب دعم متفاوت من السعودية واليونان وفرنسا، لكن الهزائم العسكرية الأخيرة "قد" تضع مصداقية حفتر على المحك أمام الدول الداعمة، الإمارات ومصر أولا.
وتعول دول عربية وغير عربية على قدرات خليفة حفتر واستعداده لاستخدام القوة "الغاشمة" لهزيمة حركات الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة، وتحقيق مكاسب اقتصادية من قطاع الطاقة والمزيد من عقود إعادة الإعمار بعد أي تسوية سياسية، بالإضافة إلى تبديد مخاوف دول الاتحاد الأوروبي من الهجرة غير الشرعية إلى دولهم عبر السواحل الليبية واحتمالات انتقال إرهابيين من دول عربية أو إفريقية إليها.
وعلى الرغم من فشله، فمن المتوقع أن تواصل دول عدة، منها الإمارات، إنفاق المزيد من الأموال لدعم قوات حفتر وتسليحه بأسلحة ثقيلة ونوعية من مخازنها، أو توريدها من دول أخرى لصالحه بغطاء دبلوماسي فرنسي ودعم لوجستي روسي قد يمتد إلى الإيعاز لنظام بشار الأسد بمواصلة إرسال جنود من قواته لدعم قوات خليفة حفتر، في خطوة رمزية تعبر عن الجهد المشترك في مواجهة تركيا.
وبصفته الحاكم الفعلي لدولة الإمارات العربية المتحدة، فإن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد يستحوذ على حقول نفط إمارة أبو ظبي التي تشكل ما يصل إلى 6 في المائة من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم، حسب تقارير.
وعلى الرغم من صغر مساحتها (71 ألف كيلو متر مربع) بعدد سكان أقل من 10 ملايين نسمة (يشكل السكان الأصليون منهم نسبة أقل من 12 في المائة)، تستحوذ دولة الإمارات على ما يصل إلى 3.4 في المائة من حجم الإنفاق العسكري في العالم، وهي ثامن أكبر دولة بحجم الإنفاق العسكري في العالم ما بين عامي 2015 و2019، بحسب مصادر متخصصة,
ومن المتوقع أن تخفض الإمارات حجم إنفاقها العسكري هذا العام بسبب تداعيات أزمتي جائحة كورونا وحرب الأسعار، ما يلقي بظلاله على الأداء العسكري المتوقع لقوات خليفة حفتر، وهو ما سينظر إليه على أنه هزيمة لمشروع الإمارات في ليبيا، حيث يهمها توسيع نشاطاتها في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط عبر ميناء بنغازي من خلال مؤسسة موانئ دبي العالمية التي تحقق أرباحا سنوية تتجاوز 1.3 مليار دولار، وفق بيانات رسمية.
ووثق تقرير "سري" للأمم المتحدة نشرت وكالة "بلومبيرغ" الأمريكية بعضا من محتواه منتصف مايو الماضي، حول تشغيل دولة الإمارات جسرا جويا لتوريد السلاح إلى حليفها في ليبيا، وكشف أن خبراء من الأمم المتحدة يحققون في 37 رحلة جوية إماراتية من أصل مئات الرحلات الموثقة في مواقع تتبع الطيران خلال شهري يناير وفبراير الماضيين.
وتحدث التقرير عن توظيف الإمارات لشبكة من الشركات الوهمية، وشركتين من شركات الحماية الأمنية الخاصة، لتزويد قوات خليفة حفتر بالمروحيات والطائرات دون طيار وتحسين قدرات قواته في الحرب الألكترونية.
وحسب تقارير من مصادر أخرى، دفعت الإمارات خلال السنوات الماضية لتمويل حروبها الخارجية - من دول غير الولايات المتحدة - أثمان أنظمة دفاع جوي روسية من طراز "بانتسير"، ومروحيات من جنوب إفريقيا وأعداد أخرى من جمهورية بلاروسيا، وطائرات مسيرة روسية وصينية، بالإضافة إلى طائرات نقل عسكري روسية الصنع، مع كميات من الذخيرة والصواريخ المضادة للدروع من عدة مصادر.
إلى جانب ذلك، توفر الإمارات مقاتلين أجانب "مرتزقة" من جنسيات عدة تتولى نقلهم إلى ليبيا للقتال إلى جانب قوات حفتر، بينهم مرتزقة "فاغنر" الروسية وميليشيا الجنجويد السودانية ومن تشاد وجنوب إفريقيا وكولومبيا ودول أخرى.
وتعد الولايات المتحدة أكبر مورد للأسلحة إلى الإمارات بما يزيد عن 60 في المائة من مجموع استيرادها للأسلحة من دول العالم منذ عام 2009 إلى اليوم، حيث أبرمت الدولتان 32 صفقة أسلحة بقيمة تتعدى 27 مليار دولار أمريكي، منها نحو 100 طائرة "أباتشي" و16 مروحية نقل أفراد من طراز "شينوك"، وأكثر من 30 ألف قنبلة ونحو 4600 مركبة ناقلة جند مقاومة للألغام ونظام دفاع جوي من طراز "ثاد".
وتأتي فرنسا في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة بين موردي الأسلحة للإمارات، بينما تحتل روسيا المرتبة الثالثة حيث زودتها بـ 50 منظومة "بانتسير" للدفاع الجوي ومعدات أخرى منها صواريخ مضادة للدبابات.
التدخلات الإماراتية المصحوبة بإنفاق مالي كبير تتعدى دعم الانقلابات العسكرية، كما في دعم الانقلاب في مصر عام 2013، إلى خوض حروب الوكالة في الصومال وأفغانستان ضد تنظيمات جهادية، وإلى اليمن لدعم القوات الانفصالية في عدن والجنوب، وإلى ليبيا لدعم خليفة حفتر في حربه على الحكومة الليبية، وإلى دول أخرى لتأمين وحماية مصالح الإمارات وشركاتها العابرة للحدود.
أدى الإنفاق المالي الإماراتي المتزايد على حروبها الخارجية إلى أزمة اقتصادية فاقم منها عاملان آخران، هما: جائحة كورونا التي تسبب بإغلاق كامل للنشاط الاقتصادي، وحرب أسعار النفط بين السعودية وروسيا التي أدت لتراجع حاد بالأسعار ، حيث تشكل عائدات النفط أكثر من 90 في المائة من إيرادات دولة الإمارات.
ودفع تراجع إيرادات النفط الإمارات للاقتراض وإصدار سندات سيادية بقيمة 7 مليارات دولار.
ليس من المؤكد أن سيطرة قوات الحكومة الليبية على الغرب الليبي ستنهي الصراع الداخلي في ليبيا مع استمرار قوات حفتر بالسيطرة على الشرق الليبي وأجزاء كبيرة من الجنوب، حيث تتمركز فيهما مصادر الطاقة (النفط والغاز) التي تشكل نحو 94% من موارد البلاد في بلد يحتل المرتبة الخامسة عربيا باحتياطي يبلغ حوالي 48.36 مليار برميل، وفق بيانات "أوبك".
لذلك، قد تحاول الإمارات القفز على خسارتها "الحتمية" في ليبيا من خلال تشجيع حفتر على فرض أمر واقع في الشرق الليبي بما يشبه حالة التقسيم، أو السعي باتجاه تقسيم ليبيا إلى دولتين أو أكثر، مع استمرار استحواذه على الثروات النفطية ودعم تتويجه كمصدر شرعي للنفط إلى الأسواق العالمية، بما يضمن للإمارات مساحة أكبر من عمليات إنتاج النفط وتسويقه من مناطق الهلال النفطي، لتعويض ولو جزء يسير من خسائرها الصخمة.
لكن كل تلك المخططات ستصطدم حتما بمواقف تركية قوية وداعمة للحكومة الشرعية في ليبيا المعترف بها دوليا.