[ استراتيجية تشتيت الوحوش.. كيف نجحت قطر في تفكيك مخاطر الحصار؟ ]
قد تكون الدولة الصغيرة جميلة، لكنها بالتأكيد غير آمنة؛ إذ لا شك أن الدول الصغيرة تواجه عددًا مختلفًا من المصاعب الأمنية إذا كانت مجاورة لدول كبرى، وغالبًا ما تتهددها مخاطر الإخضاع أو الاحتلال. أما إذا ما كانت تقع بين دولتين جارتين كبريين، فقد تصبح إما مسارح لصراعات الكبار أو بيادق لا تملك مصيرها. فالدول الكبرى، المجاورة لمثيلاتها الصغيرة، غالبًا ما تنتظر من الجارة الأصغر أن تكون سياستها تابعة ومتسقة مع سياسات الدولة الأكبر وفقًا لمقتضيات المصالح المشتركة أو الأمن المشترك حتى وإن احتجت الدولة الأصغر على ذلك الوضع (1). وبالطبع، فإن الدول الأكبر عادة ما تنزع إلى ارتداء لَبوس الزعامة (عبر قرار أحادي) وتنصِّب نفسها زعيمة وحامية للأمن الإقليمي، ومن ثم تفرض واجب الطاعة والإخلاص على أتباعها من الدول الجارة الأصغر.
مثل هذه المشاكل ليست وليدة اليوم، ولا هي فريدة من نوعها. ومع ذلك، فإن العديد من تلك المشاكل ينطبق على دولة قطر، خاصة في أعقاب إعلان كل من المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين قطع علاقاتها مع قطر.
سنحاول في هذه الورقة، بشكل سريع، تحليل التحديات العسكرية التي تواجهها الدول الصغيرة، ومن ثم نلقي نظرة على الطريق الذي سلكته قطر في سبيل تعزيز قوتها العسكرية.
تحدي الجغرافيا: مجاورة دولة كبيرة
يتمثَّل أول التحديات التي تواجهها دولة صغيرة في رغبة دولة كبيرة في الحصول من جارتها الأصغر على الاعتراف بزعامتها واتباع أجندتها في القضايا المتعلقة بالأمن. فالدول الكبرى، وبالأخص تلك التي استثمرت بسخاء في مجال الأمن، غالبًا ما تسعى إلى بناء تحالفات مع جيرانها منصِّبة نفسها حاملة للواء الزعامة. كانت الولايات المتحدة الأميركية، بعد إعلانها مبدأ مونرو عام 1823 (2)، أول دولة معاصرة تُقْدِم على إعلان نفسها زعيمة الأمن الإقليمي (معتبرة القوى الأوروبية قوًى غير مرغوب فيها داخل الفضاء الجغرافي الغربي).
ومن ثم، وعلى مدى الجزء الأكبر من القرنين الماضيين، قامت بسلسلة من التدخلات في شؤون دول أخرى أضعف منها، وهي في الأغلب دول فاشلة، داخل الفضاء الجغرافي لنصف الكرة الغربي. أبرز تلك التدخلات كان احتلال هاييتي لعقود طويلة (3)، وإجبار بنما على الانفصال عن كولومبيا (4) وما تبعه من إطالة أمد احتلال الجزء الواقع في بنما من القناة (5)، بالإضافة إلى اختراقات متكررة وخاطفة داخل نيكاراغوا ودولة الدومينيكان (6).
استطاعت الولايات المتحدة الأميركية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تطوير منظمة إقليمية كبرى (منظمة الدول الأميركية) تجمع عددًا من بلدان الأميركتين بهدف تأكيد زعامتها الإقليمية، طالبة من الدول الجارة الصغيرة المشاركة في عمليات أمنية. وقد وفرت "منظمة الدول الأميركية"، التي يقع مقرها في واشنطن، الغطاء القانوني وجهزت القوات العسكرية، في ستينات القرن الماضي، لاحتلال هاييتي وجمهورية الدومينيكان (7).
دون شك، ثمة دول صغيرة ترى أن أفضل ما يمكن أن تتخذه من سياسات هو اعتمادها على قوة أجنبية تقدم لها الدعم والتمكين لتتقمص دور تلك الدولة الكبرى. في الجزء الغربي من العالم، لعبت دولة كوبا هذا الدور، وقد كانت لعقود طويلة دولة افتراضية تابعة للاتحاد السوفيتي، واتخذت من معاداة أميركا عنصرًا محددًا لهويتها القومية وسياستها الخارجية، على حد سواء (8).
إذا ما طبقنا هذا المثال على قطر، فسيكون بإمكاننا رؤية المملكة العربية السعودية (ولاحقًا دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي دولة أصغر لكنها تلعب دورًا خارجيًّا يفوق حجمها في القضايا الأمنية) تطرح نفسها قائدة لدول الخليج العربي، وتسعى لفرض توحيد السياسات والرؤى مع قطر وغيرها من الدول الخليجية الصغيرة. ويمثل مجلس التعاون الخليجي الإطار والأداة المنطقية لتنسيق السياسة والأمن بين تلك البلدان. وعلى نحو مماثل، وكما يقع مقر منظمة البلدان الأميركية الرئيسي في واشنطن، فإن مجلس التعاون الخليجي الرئيسي يتخذ من الرياض مقرًّا لقيادته المركزية.
أبدت قطر علنًا، ومنذ وقت ليس بالقصير، تفلتها ومخالفتها الاقتداء بخط السلوك المطلوب منها من قبل السعودية والإمارات والبحرين من خلال اتباع سياسة مختلفة تجاه الإخوان المسلمين، وإبرام شراكة مع إيران (والتي هي في الحد الأدنى كانت مفروضة عليها بحكم المعطيات الجغرافية وتقاسمها مع إيران عددًا من حقول النفط)، وقبول قطر استقبال معارضي أنظمة دول مجلس التعاون الأخرى على أراضيها، وتمويل منصات إعلامية منتقدة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي، وهي خطوات اعتبرتها دول جوار قطر الكبرى استفزازات لا تُغتفر. من جانبها، عملت قطر على ضمان استمرار وجودها باتباع توجهين رئيسيين: تمثَّل الأول في تحالفها مع الولايات المتحدة، والثاني في شراء كميات ضخمة من العتاد العسكري. سنناقش نتائج هاتين المقاربتين في الفقرات القادمة من هذه الورقة.
استراتيجيات الدولة الصغيرة من أجل البقاء: التحالف مع قوة عظمى
إن تبعية كل دول مجلس التعاون الخليجي -بنسب متفاوتة- للولايات المتحدة الأميركية باعتبارها الضامن الأخير لبقائها واستمرار وجودها، تشكِّل واحدة من الحقائق المُعقدة للأزمة القطرية الراهنة. في هذا السياق، يمكننا اعتبار نظرية كارتر -وهي إعلان من جانب واحد تتعهد فيه أميركا بدعم دول مجلس التعاون الخليجي من دون أي شروط مسبقة (9)- التزامًا أكثر صلابة من التزام أميركا تجاه حلف شمال الأطلسي. وعلى عكس الالتزام الأميركي بالتدخل في النزاعات الأوروبية، وفقًا للبند الخامس، فإن مبدأ (نظرية) كارتر تم اختباره عندما قادت القوات الأميركية تحرير الكويت عام 1991 (10). لم تنسَ باقي دول مجلس التعاون الخليجي مضمون هذه الرسالة: احتفاظ الولايات المتحدة بحضور قوي في المنطقة واعتبارها الحَكَمَ الأخير في قضايا المنطقة الأمنية.
في مثل هذه الحالة، ربما لم يكن ثمة مفر من أن تكون الشكاوى التي قدمتها السعودية والإمارات من سياسة قطر مصوغة، أساسًا، في عبارات اختيرت بعناية لإقناع الولايات المتحدة. فعند إعلان محاصرة قطر، كانت الشكوى الأساسية: تمويل قطر للإرهاب (11). ورغم أن هذا عامل قلق مشروع بكل تأكيد، إلا أنه لا يعني دولة قطر وحدها فلطالما كان أغلب الأميركيين ينظرون إلى المملكة السعودية على أنها المموِّل الأول لتنظيم القاعدة، وهم لا يكنون للمملكة مشاعر طيبة (12) على الرغم من تصدر السعودية لقيادة حملة مكافحة تمويل الإرهاب حاليًّا؛ فاللغة والاتهامات التي اختيرت لم تكن لتجد لها صدى لدى القطريين ولا لدى غيرهم من مواطني بلدان الخليج العربي؛ فقد تم اختيارها بشكل يُحدث صدى لدى الولايات المتحدة، وقد لاقت الاتهامات المقدمة من السعودية والإمارات ضد قطر قبولًا فعليًّا لديها من حيث المبدأ، وبدت لاحقًا وكأنها تدعم موقفهما.
مع تواصل أزمة مجلس التعاون الخليجي، يبدو أن الطرفين غيَّرا من التركيز على حججهما المقدمة نحو السعي إلى التأثير داخل الدوائر الأميركية؛ فمنذ اندلاع الأزمة أنفق الطرفان ملايين الدولارات لحشد تأييد أكبر عدد من الدول؛ فقد عملت قطر على بعث نَفَس جديد أكثر حركية لتحفيز حضورها المتواضع في واشنطن وسعت لمواجهة الحضور الفاعل والحيوي لسفير دولة الإمارات المؤثر جدًّا في دوائر صنع القرار في واشنطن (13). لاقت تلك الجهود القطرية بعض النجاح؛ حيث بات عدد متزايد من المسؤولين والمراقبين ينظرون إلى النزاع الخليجي على أنه نزاع محلي يتطلب حلًّا محليًّا. وهو ما يُعتبر، بمقاييس مختلفة، نصرًا لقطر.
ثمة حالة سابقة لهذا اللجوء إلى قوة خارجية، وهي حالة النزاع اليوناني-التركي؛ فخلال حقبة الحرب الباردة، وتحديدًا في أعقاب غزو قبرص عام 1974، كان الطرفان: اليوناني والتركي، على حافة الدخول في حرب بينهما. والطرفان عضوان في حلف شمال الأطلسي ويعتمد كلاهما على الولايات المتحدة كضامن نهائي لأمنهما (14).
قرر الطرفان تقديم قضيتيهما والترويج لوجهتي نظرهما في واشنطن؛ وبعبارات رنانة في آذان الأميركيين حاول اليونانيون لفت النظر إلى التزامهم بقيم الديمقراطية، في حين ذهبت تركيا إلى التذكير بموقعها على الحدود السوفيتية والتزامها العسكري مع حلف الناتو.
لعب التواجد العريض للجالية اليونانية في أميركا، في مقابل غياب حضور جالية تركية مهمة فيها، أحد العوامل التي زادت من تعقيد الحالة (15). وكانت تركيا هي الطرف الأقل تأثيرًا في كل المنصات والمنتديات السياسية الأميركية. لم يكن لهذا العامل دور يُذكر لصالح أي من الدول الخليجية؛ فهي جميعها غير ممثلة بما يكفي داخل النسيج الاجتماعي الأميركي.
في ضوء هذا، يمكن تقييم الجهود القَطَرية المكثفة والمتواصلة في واشنطن على أنها الأكثر نجاحًا. في الماضي، كان الحضور القطري في واشنطن هزيلًا مقارنة بالحضور الأكثر انخراطًا وجرأة وبجهود لوبيات الضغط السعودية والإماراتية في كسب ولاءات في واشنطن. وعلى إثر فضيحة شركة موانئ دبي العالمية، عام 2006، عملت الإمارات، بشكل خاص، على جعل سفارتها أكثر السفارات تأثيرًا في واشنطن، في وقت لم يكن فيه لقطر حينها أي شأن يُذكر في ذلك السباق. لكن، منذ ذلك الحين، استطاعت قطر رد أغلب التشريعات العدائية أو محتملة العداء في واشنطن، وتمكنت من حشر جيرانها في زاوية مغلقة. وهذا يجب أن يُحسب نصرًا لقطر.
لقد فعلت قطر أكثر من الدفع لجماعات الضغط؛ حيث استطاعت إشراك واشنطن بطريقة جديدة كليًّا. لقد كثف المسؤولون القطريون، على غرار وزير الخارجية، زياراتهم للولايات المتحدة وأجروا لقاءات مع المراسلين الصحفيين والأكاديميين والمحللين في مراكز البحوث بشكل قلَّ نظيره لدى نظرائهم من العالم العربي (16). أعلنت قطر عن مشاريع لتوسعة القاعدة العسكرية التي تستضيف القوات الأميركية، وهي المبادرة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا في أميركا التي تمر بحالة تقشف مالي. كما تعاونت قطر في القضية المتعلقة بالأجواء المفتوحة وهي القضية التي كانت تشغل شركات النقل الجوي الأميركية وتؤرق العلاقات بين البلدين (17). أخيرًا، اشترت قطر كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية -وهي كميات تفوق بكثير ما يمكن لسكانها المحليين استخدامه فعليًّا- (18). كل هذه الخطوات جعلت قطر في دائرة الأضواء الإيجابية، وقوَّضت تدريجيًّا الصورة التي رسمتها عنها كل من السعودية والإمارات على أنها دولة مارقة معادية لمصالح الأميركيين.
عسكريًّا، كان تحرك قطر الأساسي هو لعب ورقة قاعدة العديد الجوية المشتركة، وهي واحدة من أكبر القواعد الأميركية الموجودة في العالم، وهي القاعدة الأميركية الوحيدة في الخليج القادرة على استيعاب عمليات طائرة B-52(19).
تستضيف قاعدة العديد المقر المتقدم للقيادة المركزية الأميركية الرئيسي، ومركز العمليات الجوية المشتركة، والمقر المتقدم لوحدة العمليات الخاصة التابعة للقيادة المركزية الأميركية. كما تتوفر القاعدة على مدرج رئيسي طويل، ومدرج مقوى، وعدد من السواتر، ومنطقة سكنية واسعة مزودة بوسائل الراحة للجنود الأميركيين، بالإضافة إلى تمتع القوات الأميركية بدرجة كبيرة من حرية الحركة.
أدرك القطريون أهمية هذه القاعدة. وبالفعل، فإنه ومنذ بداية أزمة مجلس التعاون الخليجي، كان أحد أهم أهداف التحالف ضد قطر هو نقل مقر القيادة المركزية الأميركية من قاعدة العديد إلى قاعدة الظفرة الجوية في أبوظبي (20). وفي الوقت الذي كان فيه موقف وزارة الدفاع ثابتًا في معارضة الخطوة (غالبًا لأسباب تتعلق بالتكلفة وعدم وجود حاجة عسكرية تدعو لذلك)، فإن موضوع نقل القاعدة كان مطلبًا ثابتًا طيلة الأزمة.
أدرك القطريون قيمة قاعدة العديد، وسعوا إلى زيادة قيمتها؛ ففي خطابه أمام لجنة الإرث، في يناير/كانون الثاني 2018، أعلن وزير الدفاع القطري عن زيادة عدد من الثكنات وافتتاح مدرسة أميركية في القاعدة، بالإضافة إلى مشروع إقامة منشأة بحرية أميركية في قطر (21).
ومع الترحيب الذي قوبلت به هذه الإجراءات في واشنطن، إلا أنها لم تكن حاسمة. فقد سبق للولايات المتحدة في الماضي أن غادرت قواعد عسكرية عندما قدَّرت أنها إمَّا محدودة لدعم تحقيق الأهداف الأميركية أو لارتفاع تكاليف تشغيلها (22). وإذا ما فرضت قطر قيودًا على حركة القوات الأميركية العاملة على أراضيها، فإن قيمة القواعد ستنخفض بصرف النظر عن البنية التحتية التي تحتويها. لا يبدو أن الحال كذلك؛ فالقواعد في قطر نشطة ومقدَّرة وآخذة في التوسع.
ثمة سوء فهم شائع يتعلق بمدى إمكانية استخدام تلك القواعد في صد أي هجوم عسكري ضد قطر. والحقيقة أن القاعدتين الأميركيتين الكبيرتين في قطر تختصان بالقيادة والمراقبة، والقوة الجوية والعمليات اللوجستية، ولا تتوفر القواعد الأميركية في قطر على قوات قتال بري. وفي حال اتخذ جيران مجلس التعاون الخليجي خطوات عسكرية ضد قطر فإن الرد الأميركي سيكون سياسيًّا وليس عسكريًّا. القوات الموجودة في تلك القواعد غير مؤهلة للدفاع ضد أي غزو بري محتمل؛ لذلك فإن الرد الأميركي المبدئي سيكون سياسيًّا وأي رد أو عمل عسكري لن يكون بأية حال انطلاقًا من المنشآت الأميركية.
التحالف الأميركي-القطري أكبر من مجرد قواعد عسكرية، غير أن القواعد هي التعبير الظاهر عن تلك العلاقة، ومع ذلك، فلابد من عدم المبالغة في أهميتها. ففي حال تطورت قضايا أمنية جدية بين الولايات المتحدة وقطر، فإنه لن يكون للقواعد دور في التغطية على القضايا الأخرى. ومع أن استضافة المنشآت الأميركية العسكرية أمر مقدَّر، غير أنها لا تمنح صكًّا أبيض لتجاهل القضايا الأميركية الأمنية الأخرى. وقد شهد التاريخ الأميركي الحديث افتتاح وإغلاق عدد من القواعد العسكرية استجابة لتغير الأوضاع. الموقف القطري، في هذا الإطار، قوي لكنه لا يحظى بمناعة مطلقة، وما قد يخدم مصالح الجانب القطري، في هذا السياق، هو متابعة نفس الخطوات على غرار تلك التي اتخذها وزير دفاعها بإعلانه توسعة مشروع ثكنات الجنود الأميركيين في قاعدة العديد.
كارثة عسكرية محتملة: تحالف قطر مع قوة أجنبية معادية
قد تختار بعض الدول الصغيرة، وهي تواجه مطالب مجحفة من الدول الجارة الأكبر، التحالف مع قوة أجنبية معادية للجار الأكبر. تلك كانت الاستراتيجية التي انتهجتها كوبا من أجل الحفاظ على استقلالها عن الولايات المتحدة (وربما ازدهارها أيضًا). وبينما كانت نتيجة تحالف كوبا مع الاتحاد السوفيتي كارثة على مستوى التقدم الاقتصادي والسياسي، إلا أنه، من ناحية أخرى، مثَّل عاملًا أساسيًّا في الحفاظ على استقلالها ومكَّنها، على مدى 30 عامًا، من انتهاج سياسات تخالف رغبات واشنطن (23). تحولت كوبا من كونها صوتًا شبه مستقل إلى صوت كامل الاستقلالية في مجال الشؤون الخارجية، بل وباتت متزعمة لحركة عدم الانحياز. وبينما تبقى كوبا واحدة من أكثر الدول قمعية في العالم وأحد أسوأ الاقتصادات أداءً في النصف الغربي من الكرة الأرضية، إلا أنها تتمتع باستقلال ناجز.
تحالفت كوبا، على إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، مع زعيم له نفس التفكير (علاوة على أنه غني بالنفط) في فنزويلا (24). أما إلى متى يمكن لهذا النهج المعادي للولايات المتحدة أن يستمر؟ فيبقى سؤالًا مفتوحًا. لكن في المدى القصير، على الأقل، فبالإمكان تقييم السياسة الكوبية بالناجحة، فكوبا تظل دولة ذات سيادة تستعصي على إدراجها ضمن مدار النفوذ الأميركي.
يمكن المجادلة هنا بأن الروابط العسكرية والسياسية والاقتصادية القطرية-التركية المتنامية (والتي تنظر إليها دول الحصار على أنها قوة معادية إلى حد ما) تلعب هذا الدور. وبينما تتم المبالغة، غالبًا، في تقييم القدرات العسكرية التركية، إلا أنها تمكنت من تأسيس حضور عسكري محدود لها في دولة قطر، وهو حضور كثيرًا ما تُصوره الصحافة (بشكل غير دقيق) كضامن محتمل لاستقلال قطر.
سجلت قطر أيضًا انفتاحًا على روسيا (25). وعلى الرغم من أن ذلك الانفتاح في العلاقات مع روسيا لا يضاهي عمق أو أهمية الانفتاح المسجل تجاه تركيا، فإن شراء طائرات مقاتلة روسية ليس له أي مبررات عسكرية على الإطلاق، لكنه يكتسب معنى سياسيًّا منطقيًّا للغاية؛ فهو يذكِّر أميركا، ودول مجلس التعاون الخليجي أيضًا، بأن في جعبة قطر خيارات أخرى قد تضطر لها إذا ما زادت الضغوط عليها.
ثمة خطوة أخرى لم يتم اتخاذها، وهي التحالف مع إيران. ومن المفيد جدًّا لقطر أن قياداتها لم تنشئ علاقة أمنية مع إيران؛ إذ لا شك في أن تعزيز الارتباطات مع إيران، باعتبارها قوة موازية لقوى دول الحصار الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، من شأنه أن تكون له نتائج مضرة بأمن قطر. وفي الوقت الذي تسعى فيه إيران، بكل تأكيد، إلى تقديم نفسها كخيار بديل في مقابل العربية السعودية والإمارات، فإن أي تعزيز للحضور الإيراني في قطر سيحمل في طياته مخاطر نفور الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى من قطر. وبالفعل، فقد تم نشر تقارير غير صحيحة تفيد بوجود رجال الحرس الثوري الإيراني في الدوحة بهدف نزع المصداقية عن قطر.
استراتيجيات الدولة الصغيرة في دفاعها عن البقاء: التحول إلى قوة عسكرية
تمكنت بعض الدول الصغيرة حجمًا من تغيير محيطها الأمني بأن أصبحت قوة عسكرية أكبر بكثير مما يتطلبه حجمها الجغرافي. فمنذ حرب الإبادة في العام 1994، أصبحت رواندا أكبر قوة عسكرية في منطقة إفريقيا الوسطى، وتدخلت في الكونغو عبر فرض تأثير يفوق بأشواط حجمها الطبيعي. سنغافورة أيضًا، وهي بلد صغير بكل المقاييس، تلعب دورًا أمنيًّا كبيرًا في إقليمها وباتت تُعامَل بطريقة تجعلها دولة أهم بكثير مما يفترضه حجمها (26).
تُقدِّم دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي دولة تقع في جوار قطر، المثال الأبرز لدولة صغيرة طورت، بسرعة مذهلة، قدراتها العسكرية بشكل مثير للإعجاب فعلًا. فقد تحولت القوات المسلحة الإماراتية، في مدة تجاوزت 30 عامًا بقليل، من مجموعة من القوات الشرطية غير المنظمة إلى أكثر القوات تطورًا في العالم العربي؛ فقد نفذت قواتها عمليات إنزال برمائية مضادة وإنشاء قواعد عسكرية في إفريقيا واليمن. وهكذا يبدو فخر الإماراتيين بالحصول على شرف لقب "ليتل سبارتا" أو "إسبرطة الصغرى" مبرَّرًا (27).
السؤال الذي يُطرح في هذا السياق هو: هل بإمكان قطر محاكاة جارتها ومن ثم التحول إلى أن تصبح قوة عسكرية مهيبة؟ تشير صفقات شراء الأسلحة القطرية في الفترة الأخيرة إلى أنها تحاول اتباع هذا التوجه؛ حيث حصل القطريون فعلًا على معدات متنوعة من الأسلحة المتطورة من فرنسا والمملكة المتحدة وأميركا وروسيا.
اشترت قطر، منذ بدء أزمة مجلس التعاون الخليجي، أو أعلنت نيتها شراء، عدد متنوع من الطائرات المقاتلة؛ ففي ديسمبر/كانون الأول 2017، وقَّعت الدوحة عقدًا بـ6 مليارات دولار لشراء 36 طائرة مقاتلة من طراز "إف 15" (28). وكانت قطر قد أعلنت، في وقت سابق من الشهر نفسه، عن شراء أكثر من 12 مقاتلة فرنسية من طراز "رافال" (هذا بالإضافة إلى 36 طائرة في حوزتها أصلًا) مع إمكانية شراء 24 مقاتلة إضافية (29). كما أعلنت الدوحة، في وقت سابق من خريف العام 2017، خططها لشراء 24 طائرة أوروبية من طراز "تيفون" من بريطانيا (31).
وفي الجملة، فإن قطر بهذه المشتريات سترفع ترسانة سلاحها الجوي من 12 مقاتلة إلى 72، وربما أكثر. أما ترسانات قطاعات الجيش الأخرى، فشهدت بدورها ارتفاعًا مماثلًا؛ فقد تقدمت قطر بشراء زوارق بحرية ومنظومات دفاع جوي ومركبات قتالية لسلاح المشاة، إذ من المغري أن يُنظَر إلى قطر كقوة عظمى ناشئة، لكن، مع ذلك، فتلك حقيقة مخادعة. ففي الوقت الذي تعتبر فيه المعدات العسكرية مكونًا أساسيًّا في بناء القدرات، إلا أنه من غير المؤكد أن قطر تمتلك القدرة البشرية أو الخبرات المطلوبة لتحويل تلك المعدات الخام من الزوارق البحرية والطائرات المقاتلة والمدرعات إلى قدرات عسكرية حقيقية. فقطر لا يتعدى سكانها 330 ألف مواطن قطري (وهو ما يقارب حجم سكان ضاحية لندن، إيلينغ، ويقل عن عدد سكان "أناهايم" في كاليفورنيا)؛ ومن الصعب وجود عدد كاف من المواطنين المؤهلين والمستعدين والجاهزين لخوض تدريبات عسكرية عالية المستوى مثل تلك التي يتطلبها تشغيل تلك التجهيزات العسكرية العصرية.
كما يطرح تنوع التجهيزات العسكرية تحديًا آخر؛ فإذا ما أخذنا فقط الطائرات المقاتلة في الحسبان، فسيكون على قطر الاحتفاظ بثلاثة خطوط إمداد منفصلة، وثلاثة مراكز لتدريب الضباط الطيارين والمقاتلين، بالإضافة إلى ثلاثة أنواع منفصلة من الأسلحة. ثم إنه سيكون على بعض ضباط القوات الجوية تعلم اللغة الفرنسية، بينما سيتعلم ضباط آخرون اللغة الإنجليزية. وبالنظر إلى مجموع القوى البشرية المحدود الذي يمكن تأهيله، فإن هذا التنوع في المعدات العسكرية سيكون عامل تعطيل مُحتملًا. أخيرًا، لن يتم تسليم أي من هذه المعدات العسكرية قبل سنوات.
قطر بإمكانها فعلًا أن تصبح "إسبرطة صغيرة"، لكن ذلك سيكون بعد سنوات من بذل الجهود المضنية، أما في اللحظة الراهنة، فإن مشتريات الأسلحة العسكرية الكثيرة يدل فقط على طموح عسكري أكثر منه دليلًا على توفر قدرات عسكرية فعلية.
بكل بساطة، لا تتوفر قطر على ذلك الترف في الوقت حتى تتمكن من بناء قدراتها العسكرية. وعلى الرغم مما يلاحظه المراقب في الخليج، فإن امتلاك القدرات العسكرية لا يكمن في عملية شراء العتاد فقط؛ فذلك يتطلب جيلًا كاملًا حتى يتم اكتساب وتعليم وتدريب وتأهيل قيادات عسكرية، ومن ثم العمل على إدماجهم في القوات القتالية الفعلية. إن العجز الذي تعاني منه قدرات قطر الدفاعية اليوم إنما هو انعكاس للقرارات الاستثمارية التي اتخذتها القيادة القطرية منذ عقد تسعينات القرن الماضي؛ فصرف الجهود في التركيز على بناء البنية التحتية للبلد والمشاركة في الفعاليات الدولية، بدلًا من العمل بصبر على بناء القوات العسكرية، لا يمكن أن يُعالَج فورًا في وقت قصير (30).
خاتمة
ليس مجال الأمن فرعًا من الدراسات العلمية المنتظمة أو المصنفة في محاور معينة؛ فتنزيل النظريات والاستراتيجيات في المجال الأمني على أرض الواقع دائمًا ما يكون أكثر ميلًا إلى تجاوز ما يخطط له الناس أو ينتظرون وقوعه. وسيكون أكثر خدمة لأهداف قطر انتهاج تكتيكات متعددة في نفس الوقت تناسب حرص دولة صغيرة على بقائها، وهو ما يبدو أن قطر تقوم به بالفعل.
ستكون قطر في وضع أفضل في حال التزمت بتطوير وتوسعة المنشآت العسكرية الأميركية الواقعة على أرضها؛ عليها أن تستمر في تسليط الضوء على تلك المنشآت وتطويرها، كما عليها، في الوقت ذاته، الإقرار بأن تلك القواعد تكتيكية وليست استراتيجية، بمعنى أنها ليست سوى مكوِّن واحد من مكونات العلاقة مع أميركا. إن تجديد التزام قطر باستضافة مجانية للقوات الأميركية سيُثمر اعترافًا مؤسسيًّا بالعلاقة البينية -ومثل هذه الإجراءات من قبيل تخفيف الإجراءات الجمركية المتعلقة بدخول الجنود الأميركيين ومغادرتهم للقاعدة العسكرية- من شأنه أن يُنشئ توافقًا داعمًا لقطر داخل صفوف مختلف القيادات والقطاعات العسكرية الأميركية.
جهود قطر الرامية إلى تسريع تطوير قدراتها العسكرية طموحة ومرحب بها، وستواجه قطر تحديات عديدة في طريقها إلى تحويل تلك المعدات العسكرية الحديثة إلى قدرات عسكرية فعلية؛ ويبقى وضع قطر المتعلق بالقوى البشرية المنخرطة في الجيش مدعاة أساسية للقلق. وفي كل الحالات، فإن تطوير القدرات العسكرية لا يمكن تحقيقه البتة في لمح البصر؛ ولن تظهر نتائج القرارات المتَّخَذة اليوم إلا بعد عقد من الزمن على أقل تقدير. لكن الأهم هو أن قطر ألزمت نفسها بالسير في الاتجاه الصحيح.
في نهاية الأمر، فإن عددًا ضئيلًا من الدول تمكنت من تأمين أنفسها عبر الوسائل العسكرية. فالحدود بين الولايات المتحدة وكندا غير قابلة للدفاع عنها بالمرة؛ لكن الصداقة التي رعتها الأمتان تمت حمايتها عبر الشراكة التجارية والثقافية، وليس بالطرق العسكرية.
بالنسبة لقطر، فإن حل الأزمة الحالية بشكل حقيقي، واستعادة ازدهارها الذي كانت عليه قبل اندلاع الأزمة، يستوجب الدفع نحو تسوية الأزمة الحالية.