أصدر الرئيس سالم ربيع علي المعروف بـ (سالمين) توجيها صارما لأجهزة الدولة في عدن بمنع إطلاق كلمة "شمالي" على اليمنيين القادمين من المحافظات الشمالية لليمن إلى عدن، واستبدلها بكلمة "أخي اليمني".
كان ذلك خلال فترته الرئاسية التي امتدت من 1969 حتى 1978م، وكأنت أعلى فترة حكم لرئيس يحكم الشطر الجنوبي من اليمن، وأكثرها ازدهارا، وبناء لمؤسسات الدولة، والانفتاح على العالم، وهي تجربة أجهضت مبكرا من قبل الرفاق أنفسهم، مثلما جرى إجهاض تجربة رفيقه في شمال اليمن إبراهيم الحمدي.
ذلك التوجيه لـ"سالمين" كان له صداه في كل مدن جنوب الشطر اليمني آنذاك، والذي ترفع عن تلك المفردة، ما عزز من الوحدة الوجدانية بين اليمنيين أنفسهم، قبل تحقيق الوحدة اليمنية بسنوات، بل ووضع اللبنات الأولى لها.
من أين جاء ذلك الشعور الوحدوي الأخوي لسالمين؟ بالتأكيد فإن فترة سالمين جاءت بعد سنوات قليلة من خروج المستعمر البريطاني من عدن، بعد 129 عاما من الاحتلال والعبث، كرس خلالها فكرة التمزيق، ليس بين أبناء البلد الواحد، (شمال - جنوب) بل حتى بين أبناء الشطر الواحد، وعلى مستوى عدن وما جاورها.
تلك الممارسات الاستعمارية وعمليات التفريق والتمزيق بين الشمال والجنوب، على أساس مناطقي، امتدت خلال التواجد البريطاني لتشمل مظاهر عديدة، وكان ذلك محل استياء وغضب من قبل الثوار في جنوب وشمال اليمن، ولذلك عندما جرى دحر وطرد الاستعمار، كان الهدف الأسمى للثوار سابقا، والحكام الجدد لاحقا، إزالة كل الأفعال الشنيعة التي خلفها الاستعمار، وفي مقدمة ذلك إعادة الوحدة بين الشطرين، وإذابة الفوارق الناجمة عن ممارسات الاحتلال البغيض.
كان هذا في فترة ما بعد الاستعمار، أما ما قبلها فيحكي الكاتب العراقي كامل المشاهدي في كتابه "حقائق عن الجنوب العربي ونضال عدن" كيف أن الحركات السياسية والنقابات العمالية خلال فترة الاستعمار لعدن وباقي المدن يشددون في كل بيان لهم، على أهمية الوحدة بين الشطرين، بل ويتهمون من لم يضمن الوحدة ومكانتها في بيانه السياسي بالخيانة والعمالة للاحتلال.
لقد كان مجرد الإشارة إلى الوحدة إغاظة للاحتلال البريطاني، فقد كان هو المسؤول الأول عن تلك الفوارق، ولذلك فطن الثوار للأمر، وحشدوا مواقفهم المستمرة للعمل على تحقيق الوحدة، رغم حجم التآمر عليهم، ولم يضعوا حينها أي اعتبارات أخرى، لفوارق الهوية، أو اختلاف اللهجات، والملابس، ووجبات الأكل، كما يصور البعض اليوم.
تحولت الوحدة لاحقا لترمومتر، فكلما التف اليمنيين حولها، كلما خف التدخل الخارجي، وكلما تجادلوا حولها واختلفوا، زادت وتيرة التدخل الخارجي، ولذلك جعل البعض من الوحدة منذ ما قبل تحقيقها شماعة للتدخل في الشطرين، ولكن تحقيها في 22 مايو، كان نهاية لأحلام التدخل الخارجي، والذي عاد من جديد مع حرب 94م، ثم خفت وانتكس، وعاد لنفس تدخلاته مع اندلاع حرب التحالف في اليمن منذ 2015م.
اليوم يضع البعض – محليا وخارجيا – الوحدة على طاولة النقاش، ويحولها لتهمة، ويتبرأ منها في كل مرة، ووصل الأمر بمسؤول في هيئة تابعة لمجلس القيادة الرئاسي يعرب عن رفضه العلني والواضح من المواقف المؤيدة للوحدة اليمنية، ولم يكن هذا بجديد عليه، فقبله تبرأ مجلس القيادة الرئاسي نفسه من بيانات مؤيدة للوحدة والتمسك بها.
ندرك أن الوحدة لاحقا شابها بعض الأخطاء، والتي لا تنال من الوحدة نفسها كقيمة، كما يرى الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد، وهو موقف يشكر عليه دوما، رغم ما طاله من ضرر من حكام الوحدة نفسها بعد تحققها، وكثير من تلك الأخطاء الواردة جرت معالجتها سواء في عهد صالح، أو في عهد هادي، وما بقي منها قابل للحل، والانصاف والتسوية.
لكن ما يجري حاليا من مؤامرة تستهدف الوحدة، وتتبرأ منها لا يشير سوى لوضع واحد، وهو حجم التدخل الخارجي، المشابه تماما لنفس الوضع عندما كانت بريطانيا محتلة لليمن، مع فارق أن النخبة الحاكمة اليوم لديها القابلية لتكون أداة بيد التدخل الخارجي، أما نخبة أمس فقد لها من الوطنية والحس الوطني المسؤول ما يجعلها تلتف حول قضايا بلدها، وتنحاز لتاريخه، ومصلحته.
خطورة الأمر اليوم أن نفس الجهات الخارجية التي سعت للنيل من الوحدة سابقا، تعود اليوم من جديد لتصبح هي مالكة القرار، والمسيرة لليمنيين، بعد صناعتها لمجموعة من اليمنيين تحكم لمصلحتها، وتنفذ أجندتها، دون مراعاة لمسؤوليتها، ولا الخزي الذي ستحمله تاريخيا، وهي تعبث كل هذا العبث.
أما الخطورة الكبرى اليوم فهي أن الانفصال ودعوات التشطير تنمو داخل الدولة اليمنية، وتبني نفسها، وتصنع تحركاتها من إمكانيات الدولة وحضورها، وتعمل في جسد الدولة اليمنية ما يفعله السرطان في الجسد البشري، عندما يأكل ذلك الجسد ثم يقضي عليه في نهاية المطاف.
فالانتقالي ولد من رحم التدخل الخارجي، وجرى ارضاعه من جسد الدولة، وتعينت قياداته بعدة مناصب بقرارات تحمل اسم الجمهورية اليمنية، لكنه في نفس الوقت يعمل على هدم هذه الدولة، ويمضي في اتجاه بعيدا عن المشكلة التي تواجهها اليمن، ولم تكن واردة حتى عند التدخل الخارجي للتحالف الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن.
لذلك فإن التبرؤ من الوحدة اليمنية اليوم لا يعني سوى أن المتبرئين منها يضعون أنفسهم في أعلى مستوى من العمالة والارتهان الخارجي، ولا يخجلون من ذلك، بل يعتبرونه شرفا، ونضالا، ويجدون من يثني عليهم في ذلك، كيف ولا وهم أصلا صنيعة أيد خارجية، ويقتاتون من ذلك المال الأجنبي المشبوه، نظير كل فعل ارعن يفعلوه، وكل قول أحمق يقولوه.